العرب وطموح الوحدة

مبادرة مدنية عالمية لرأب الصّدع بين المغرب والجزائر!

في بداية شهر يونيو/حزيران الماضي، أطلق "المركز الدولي لمبادرات الحوار"، ومقرّه نيويورك، مبادرةً أرادها أن تكون مدنيةً خالصة، وتكون غايتها تعبيرًا عن عنوانها: "من أجل إحياء المشروع المغاربي المشترك".

مبادرة مدنية عالمية لرأب الصّدع بين المغرب والجزائر!

تتطلّع المبادرة التي يقوم عليها خبراء أمميّون من طرازٍ رفيعٍ، إلى "كسر جدار الصمت الذي تختبئ وراءه الأغلبية الصامتة المؤيّدة للاتحاد المغاربي، في ظلّ طغيان الصوت العالي لدُعاة القطيعة".

المبادرة ليست هيئةً نظاميةً، ولا مركز بحوثٍ ولا بيتًا من بيوت الخبرة. إنّها إطارٌ مفتوحٌ ومنصةٌ "لإنشاء لجنة مُتخصّصة في التفكير الإيجابي بشأن المشروع المغاربي، بهدف تشخيص العوائق التي تحول دون استكماله، واقتراح حلولٍ للمشاكل القائمة وإطلاق مبادرات لرأب الصّدع".

سباق التسلّح الذي ينهجه البلدان يُصعّد من فرضيّة حدوث صدام عسكري ما لم يتم احتواء الأزمة

ومع أنّ المبادرة تراهن على تشخيص العوائق، فإنّها لا تتردّد في تشريح واقعٍ ساكنٍ في مظهره، لكنّه يُضمر في جوهره، احتقانًا لا يوازيه إلّا احتقان البارود في البرميل!.

يقول أصحاب المبادرة في باب تشريح الواقع، إنّه "بعد إعلان الجزائر قطع علاقاتها الديبلوماسية مع المغرب في أغسطس/آب 2021، انتقلت علاقات البلدَيْن من درجة البرود المزمن، إلى درجة التجمّد".

ويُردفون لدقّ ناقوس المخاطر أكثر، بأنّ "سباق التسلّح الذي ينهجه البلدان، بالإضافة إلى تفشّي خطاب الكراهية في بعض وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي بهدف الوقيعة بين الشعبَيْن الجزائري والمغربي، يُصعّد من فرضيّة حدوث صدام عسكري في المستقبل ما لم يتم احتواء الأزمة".

هو تشريحٌ دقيقٌ بكلّ المقاييس، لأنّه يستحضر طبيعة العلاقات بين المغرب والجزائر، قطب الوحدة المغاربية، منذ أكثر من ستة عقود. وهي فترة تخلّلتها مراحل قطيعة أكثر ما ميّزتها علاقات الاتصال والتواصل بين الطرفَيْن. لقد سادت طيلتها، حالات متكرّرة من اللاعداء ومن اللاتقارب غير طبيعية بين بلدَيْن لهما من المشترك العام ما يدفع إلى جهة التقارب لا التنافر أو الممانعة.

استمرار افتعال قضية الصحراء يؤخّر المشروع المغاربي ويُعقّد مآلاته

وعلى الرَّغم من اشتداد التوتّر بين الفَيْنَة والأخرى، فقد بقي في حدوده الدنيا، ولم يبلغ مستويات المواجهة العسكرية التي عاينّاها في ستينيّات وسبعينيّات القرن الماضي، والتي كادت أن تجهزَ على الحلم الكبير الذي نادى به الرواد المؤسّسون خلال مراحل الاستقلال والتحرير.

لا يقف أصحاب المبادرة كثيرًا عند تشعّب الأسباب التي أدّت إلى هذه النتيجة، لكنّهم لا يتجاهلون حقيقة النزاع المحتدم حول قضية الصحراء الغربية (المغربية بمنطوقنا كمغاربة)، وكيف أنّ استمرار افتعالها لن يقدّم المشروع المغاربي في شيء، بل يُؤخّره ويُعقّد مآلاته، ولا سيما أنّ القضية في ردهات الأمم المتحدة، والجزائر لا تفتأ تردّد أنّها ليست طرفًا مباشرًا في النزاع.

أمّا السبب الثاني الذي يشير إليه بيان المبادرة، فيتمثّل فيما يسميه بتنافس البلدَيْن على "الريادة الإقليمية". وهو تطلّع مشروع، لكنّه يضمر شكلًا من أشكال الإلغاء المتبادل من لدن هذا الطرف لذاك. لو كُتب للمشروع المغاربي أن يتجسّد، فإنّ هذا الجموح للريادة سينتفي قطعًا ويُفسح في المجال واسعًا لريادة قطب مغاربي كبير، تشترك فيه البلدان الخمسة كلٌ وفق إمكاناتها وما تُقدّم.

أمّا في الآفاق، فتقترح المبادرة تشكيل لجنةٍ مكوّنةٍ من شخصيات مغاربية من ذوي الخبرة والتجربة والاستقلالية الفكرية، للتدقيق في العثرات وتصوّر السيناريوات القَمينة بإخراج المشروع المغاربي من أدراجه. لم يتحدّث بيان المبادرة عن الصيغ، بل أوكل مهمّتها للّجنة المختصة المُزمع تكوينها.

الاتحاد المغاربي ضرورة حيوية كبرى إذا لم يكن لبناء تكتّل اقتصاديّ قويّ فعلى الأقل لمواجهة تهديدات المنطقة

بقراءةٍ سريعةٍ لما بين سطور البيان، يتبيّن التصوّر العام الذي تنشده المبادرة، وتعتبره نقط ضوء:

أولًا: إعادة التأكيد، مع التشديد، على أنّ الاتحاد المغاربي هو ضرورةٌ حيويةٌ كبرى، إذا لم يكن لبناء تكتّل اقتصاديّ قويّ، فعلى الأقل لمواجهة التهديدات التي تتعرّض لها المنطقة، والقادمة من بلدان الساحل الأفريقي، وتزايد نفوذ القوى الكبرى، وتعدّد مصادر الإرهاب وتهريب السلاح والهجرة غير النظامية والاتجار بالبشر وما سواها.

ثانيًا: ضرورة فتح الحدود استعجالًا بين المغرب والجزائر ولو في الحدّ الأدنى، إذ بات من غير المقبول أن يستمرّ إغلاقها لأكثر من ربع قرنٍ من الزمن، فيما يشبه العقاب الجماعي الشامل للمواطنين القاطنين على جانبَيْ الحدود ولشعبَيْن شقيقَيْن باتا على قناعةٍ بأن الخلافات بين البلدين هي خلافات سياسية، تخصّ الأنظمة والقيادات الحاكمة، ولا يجب أن يُؤخذ الشعبان بجريرتها.

من ينفخ في النار من الطرفَين لن يجنيَ إلّا العاصفة

ثالثًا: وقف الحملات التحريضية والخطب العدائية التي تركب ناصية وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي، وتزيد من تأجيجها أصوات حزبية ونقابية، بدعوى وطنية مقيتة لا تنطلي إلّا على من في نفسِه مرض.

لذلك، فبقدر إيماننا بحلم المشروع المغاربي، يأتي إيماننا بأنّ الأصل هو التركيز على ما يجمع لا على لا ما يُفرّق، وأنّ من ينفخ في النار من الطرفَين لن يجنيَ بالمحصلة إلّا العاصفة!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن