مَن بوسعه أن يغفل عن السبق السياسي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي صرّح بأنّ من سيقود "الذكاء الاصطناعي سيحكم العالم"، على حد تعبيره، لأنّ "الذكاء الاصطناعي هو المستقبل ليس فقط بالنسبة لروسيا بل لكل الإنسانية".
لم يُصرّح بذلك في الحوار الذي أجري معه مؤخرًا، في منتصف شهر فبراير/شباط 2024، وإن كان قد تطرق مجدّدًا للموضوع، بل تطرّق حتى لموضوع "ما بعد الإنسان" ــ وهذا موضوع لا زال متواضعًا في التناول البحثي عند المفكرين العرب، فالأحرى عند أهل الدين والاقتصاد والاجتماع ــ وإنّما تطرق إلى ذلك في سبتمبر/أيلول 2017، أي منذ ست سنوات ونيف.
هل ثمّة إضافات نوعية يمكن أن يقدّمها المفكرون العرب مقارنة مع ما صدر حول الذكاء الاصطناعي في المجال الفكري؟
الأمر نفسه بخصوص التفاعل مع هذا المنعطف عند باقي النخب الفكرية والاقتصادية والإعلامية وغيرها، وفي الشق الإعلامي على سبيل المثال، أصبح أمرًا عاديًا أن نعاين مقالات تصدر بشكل يومي في صحف يومية، من قبيل الصحف الأوروبية، فالأحرى في المجلات الأسبوعية والشهرية، وحتى في المجلات الفصلية، موازاة مع ما يصدر من كتب حول الموضوع. (مجلة "فلسفة" الفرنسية، وهي مجلة شهرية، نشرت في ربيع 2023، عددًا خاصًا حول الموضوع).
تأسيسًا على ما سبق، يهمّنا طرح بعض الأسئلة بخصوص موقعنا النظري في المنطقة العربية، من هذه الفورة العالمية بخصوص التفاعل مع ثورة الذكاء الاصطناعي: ما الذي يمكن أن يقدّمه أهل النظر الفكري العربي في معرض اشتغالهم على الموضوع؟ هل ثمّة إضافات نظرية نوعية يمكن أن يقدّمها المفكرون العرب مقارنة مع ما صدر حول الموضوع في الأقاليم الجغرافية المجاورة على الأقل، من قبيل المجال الفكري الأوروبي، حتى لا نتيه في كثرة المقارنات مع المجالات الفكرية اليابانية أو الهندية أو الأمريكية أو غيرها.
في غضون صيف 2018، وأثناء الإشراف على إدارة تحرير مجلة "أفكار" المغربية، نشرنا ملفًا حول الموضوع، تحت عنوان: "الذكاء الاصطناعي.. المفهوم، المشروع، الأسئلة"، ولا شكّ أن بعض الأسماء البحثية تعاملت معه حينها على أساس أنّ الموضوع أقرب إلى الترف الفكري، ونخصّ بالذكر الأقلام البحثية التي تشتغل في حقول الاجتماع والدين والفلسفة، قبل ظهور عدة مستجدات خلال السنوات الماضية، التي نزعم أنّها تساعد الأسماء نفسها لكي تعيد النظر في مواقفها سالفة الذكر.
أبواب التحديات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي لا حصر لها بل إنّ الأسئلة المرتبطة به أكبر بكثير من الأجوبة
مما يُلاحظ في مواقف صنّاع القرار هنا في المنطقة العربية، أنّها انخرطت منذ سنوات في التفاعل مع الموضوع، إلى درجة إطلاق مؤسّسات وزارية أو سيادية مهمتها التفرغ له، وهي تعلم يقينًا، كما أشار إلى ذلك بوتين أيضًا، أنّ أبواب التحديات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي لا حصر لها، بل إنّ الأسئلة المرتبطة به أكبر بكثير من الأجوبة.
بمعنى آخر، "عقل الدولة" في المنطقة العربية، على الأقل مع بعض النماذج، يبدو متقدمًّا في تفاعله مع الموضوع مقارنة مع أهل النظر الفكري، وهذه مفارقة تحتاج إلى وقفات نقدية.
في هذه الجزئية الدقيقة بالذات، أي باب النظر وطرح الأسئلة والمساهمة في طرح أجوبة أو على الأقل فتح قنوات تأمّل تفيد الذات العربية الإسلامية كما تفيد الغير، تكمن أهمية المساهمة النظرية للمفكرين العرب، ممّا يقتضي طرح عدّة أسئلة مسكوت عنها في السياق نفسه، على أمل التطرّق إليها ببعض التفصيل في المقال الموالي، ونتوقف عند سؤالين منها؛ كيف تعامل المفكرون العرب إجمالًا مع الموضوع؟ ما هي طبيعة القضايا التي يمكن للمفكرين العرب الاشتغال عليها، في سياق طرق باب هذا الموضوع؟.
(خاص "عروبة 22")