أما المرجعية الثانية فشديدة القرب منا إذ إنها لا ترقى، في أول نشأتها، إلى عقود قليلة (أربعة أو ستة عقود في أقصى التقديرات). وهده المرجعية الثانية ترسخت في الوجدان الغربي المعاصر بفعل الهزات الاجتماعية، والاقتصادية العنيفة على وجه أخص والتي شهدتها بعض دول الغرب الأوروبي. الحق أنها شكل من أشكال التعبير عن الوعي الخاطئ الذي رافق تلك الهزات فانعكس في مستوى الوعي الاجتماعي.
والخلاصة في تكوّن هده المرجعية الأخيرة، التي نحن بصدد الحديث عنها، هي ما يجليه تشكّل اليمين المتطرّف في بلدان الغرب الأوروبي وما كان عنه من دعوة إلى التقوقع على الذات وإرجاع كل المشكلات الاجتماعية، وبالتالي التدهور الاقتصادي المرافق لها، إلى الوجود الإسلامي في الغرب الأوروبي. والحق كذلك أنه لا إسراف في القول عن الوعي الذي يعكسه خطاب اليمين الأوروبي المتطرّف إنه يمثّل، بالنسبة للمجتمع الغربي الأوروبي المعاصر، نكوصًا وارتدادًا متى قورن بما تحقق من مكاسب إيجابية مند عصر النهضة حتى القرن العشرين في مستوى التشبّع بالقيم المدنية التي تعلي من شأن العقل والحرية والإنسان.
الأثر القوي للحضارة الإسلامية في تشكّل المعرفة العلمية في العالم الغربي لا سبيل إلى إخفائه أو التنكّر له
يمكن اعتبار التقابل بين المرجعيتين المشار إليهما من جهة الوعي بوجود كيان كبير يدعى أوروبا ومن حيث النظر في الحضارة الغربية الحديثة من جهة العماد الذي تنهض على أساسه - أي من جهة المرجعية العليا التي تفسر أسباب قيام الحضارة الغربية وبنيتها المعرفية العميقة، ومتى أخذنا هذه المسألة بعين الاعتبار، فإنّ الجواب عن السؤال المتعلق بالبنية المعرفية للحضارة الغربية يكون هو الأساس الإغريقي-الروماني (بالنسبة للمرجعية الأولى)، في حين أنّ دعاة اليمين الأقصى، المرجعية الثانية -الحديثة كما نعتناها - يكون هو أنّ البنية الإبستمية الغربية العميقة ترجع إلى الحامل المسيحي- اليهودي.
الحديث عن الإسلام في الغرب الأوروبي (أو الحديث عن الإسلام الأوروبي) لا يملك أن يخرج عن المقتضيات التي تتضمّنهما كلتا المرجعيتين المذكورتين وفي اختلافهما في فهم وتفسير نشأة الحضارة الغربية الحديثة والمعاصرة. فحيث نلاحظ أنّ الدين، إجمالًا، لا يرد في المرجعية الإغريقية-الرومانية نجد في مقابل ذلك تأكيدًا على السمة الدينية العميقة لهذه الحضارة من جهة العماد الذي تنهض على أساسه - وهذا من جهة أولى. ونجد، من جهة ثانية، حصرًا للرافد الديني الأساسي للحضارة الغربية في الديانتين السماويتين المسيحية واليهودية، فهو يقصي الديانة الإسلامية. والقارئ الغربي، متوسط الإدراك، ولسنا نتحدث عن العالم المتخصص، للتاريخ الفكري لأوروبا الغربية يتبين في هذا التقرير أمرين غريبين حقًا. أولهما أنّ الأثر القوي للحضارة الإسلامية هو من القوة ومن النفوذ في تشكّل المعرفة العلمية في العالم الغربي بحيث أنه لا سبيل إلى إخفائه أو التنكّر له إلا مع تزييف النظر في الحضارة الغربية ذاتها. وثانيهما، أنّ الأثر اليهودي، وإن لم يكن هناك من سبيل لإغفاله (في الفكر الفلسفي، عند بعض الشراح من رجال الكنيسة) فإنه لم يكن من القوة والتأثير بحيث يعد - بجانب المصدر المسيحي - عنصرًا قويًا في تشكّل الحضارة الغربية أساسيًا، أضف إلى ذلك أنّ العداء العقائدي للديانة اليهودية ظلّ متحكمًا، فاعلًا وقويًا، عند رجال الكنيسة الكاثوليكية خاصة.
موجّهات إيديولوجية تتصل بالحاضر وتقوم بنوع من "التكييف الإيديولوجي" الذي يخدم دعاوى ومصالح آنية
على أنّ الأساسي، والأكثر أهمية، عند الآخذين بالنظرية التي ترجع الحضارة الغربية الحديثة إلى أصول مسيحية-يهودية (الخفي فيها والمغيّب قسرًا) هو الأثر الإسلامي، تصدر في القراءة عن موجّهات إيديولوجية تتصل بالحاضر فهي تقوم بنوع من "التكييف الإيديولوجي" الذي يخدم دعاوى ومصالح آنية -وتلك هي الوظيفة الأولى للفعالية الإيديولوجية.
الإيديولوجيا، من حيث هي كذلك، تظل هي "المصفوفة" (في لغة الرياضيات) التي تتم قراءة التاريخ من خلالها - وهذا بالضبط ما تقوم به القراءة التي بالأساس الإبستمي المسيحي-اليهودي للحضارة الغربية الحديثة.
(خاص "عروبة 22")