كذلك فعلت المساحات الإفتراضية، التي أتاحت لمن يُطلق عليهم "إنفلونسرز" أن تغزو ظاهرتهم حياة الناس فتبدّل أفكارهم وقناعاتهم وحتى نمط يومياتهم، متخذةً المنحى السلبي أكثر الأحيان، بمحتوى تافه غير هادف، يتقصّد تسطيح العقول وتسخيفها بغرض حصد الشهرة والمال وزيادة نسب المشاهدة.
هي مهنة طارئة ظهرت في الأعوام الأخيرة، وتُسمى الـ"influencers"، إمتهنها كثر، في عالمنا العربي، وخارجه، على فيسبوك وتيكتوك وغيرها من منصّات التواصل الإجتماعيّ، التي يتصفّحها ملايين البشر يوميًا في شتى أنحاء العالم. يقدّم من خلالها قلّة من "المؤثّرين" محتوى ثقافيًا أو فنيًا أو تعليميًا هادفًا، فيما تشارك الغالبية الكبرى من هؤلاء، في صناعة محتوى لا معنى ولا قيمة مضافة له.
ما بدأ من أجل الشهرة أو ملء الفراغ، تحوّل إلى "صناعة محتوى" كمهنة قائمة بذاتها
للأسف، هذا المحتوى، غير الهادف، عادةً ما يجذب المتابعين ويلقى قبولًا مبالغًا فيه عند شريحة واسعة من الناس، كمشاركة الـ"إنفلونسر" على سبيل المثال تفاصيل حياته اليومية، منذ ساعات الصباح الأولى وحتى يخلد إلى سريره ليلًا، من دون أيّ مغذى ولا هدف. يبدأ بعرض ما سيرتديه من ملابس والعطر الذي سيستخدمه وأدوات التجميل والتزيين... ولا ينتهي عند زيارة مطعم أو القيام برحلة ما.
حتى أنّ البعض منهم يلجأ إلى تزييف أسلوب حياته، بخلاف حياته الحقيقية، إذ عادةً ما تتمّ معالجة مقاطع الفيديو التي يعرضها الـ"إنفلونسر" عبر برامج المونتاج التي تصوّره بأحسن مظهر، لناحية الشكل والمكان... وهكذا، باستخدام صفحاتهم في العالم الإفتراضي، وفتح الهواء لأهوائهم، تعاظم دور "المؤثّرين" على مستوى العالم، لا سيّما في فترة الحجر التي تسبب بها انتشار فيروس كورونا، فباتوا أكثر قدرة على التأثير على حيوات الناس.
الأخطر هو السعي لبثّ قيم ومعتقدات بأسلوب جذّاب لا تتناسب مع أفكار ومعتقدات المجتمعات المستهدفة
لكن ما بدأ بتجربة بسيطة، من أجل شهرة أو ملء فراغ، تحوّل إلى "صناعة محتوى" كمهنة قائمة بذاتها، يروّج من خلالها الـ"إنفلونسر" للمنتجات، مثل أدوات التجميل والعطور والنظارات الشمسية والملابس والإلكترونيات، ويقيّم تجربة الطعام والمطاعم.. والقائمة تطول.
وبسبب نجاحهم المبهر في استقطاب الجماهير، فتحت أهم العلامات التجارية لـ"الانفلونسرز" أبواب عروضها، وبات منتجو السلع يقصدونهم من أجل تسويق منتجاتهم، كونهم، بحكم الواقع، أصبحوا أكثر تأثيرًا من وسائل التسويق التقليدية... إلّا أن الأسوأ والأخطر من الترويج لمنتجات والخروج على الناس بتفاصيل حياة مصطنعة ومزيفة، هو السعي لبثّ قيم ومعتقدات جديدة بأسلوب جذاب، لا تتناسب أحيانًا كثيرة مع أفكار ومعتقدات المجتمعات المستهدفة، خصوصًا مع تعميم نسق واحد من الأفكار والقيم العابرة للقارات التي تؤدي في النهاية إلى تشويه الثقافات المحلية للشعوب.
والأمثلة كثيرة في الوطن العربي، الذي بات يعجّ بنماذج من ظاهرة "المؤثرين"... ومن دون الدخول في الأسماء، فإن الغالبية منهم لا تقدّم محتوى هادفًا... هم "مؤثرون" فقط من أجل تحقيق منافع شخصية، وليس من أجل المنفعة العامة، فيلعبون دورًا دعائيًا أكثر مما هو تثقيفي أو تنموي يصبّ في صالح الشباب العرب، الأكثر عرضة للتأثّر بهذا المحتوى، باعتبارهم في مرحلة تكوين المبادئ والأفكار والثقافة.
بعض المؤثرين نجح في التصدي لقضايا مهمة، مثل التنمّر والعنف الأسري
في الخلاصة، لا يختلف عاقلان أننا بتنا اليوم أمام مفهوم معقّد من مفاهيم التواصل الاجتماعي، يرتكز على نسب المشاهدة وعدد المتابعين بدلًا من جودة المحتوى، وهو مؤشر بالغ الدلالة لمسألة تغيّر الذوق العام كونه يلقى إقبالًا جارفًا، يأخذ الشباب العربي بعيدًا عن الفكر التنموي، المعرفي، الثقافي والإبداعي.
لذا من المهم جدًا، لو أمكن، التفكير بكيفية تسليط الضوء على ظاهرة "المؤثرين"، من زاوية تشجيع الذين يقدمون محتوى جيدًا وقيّمًا للمتابعين، يحترم ويُنمّي عقولهم... صحيح أنهم قلّة لكنهم متواجدون أيضًا على الساحة الإفتراضية، يقدّمون محتوى رصينًا هادفًا لا يلقى للأسف إهتمامًا من عدد كبير من المشاهدين، مقارنةً بعدد المتابعين لمحتويات سخيفة على الـ"سوشيال ميديا". ولا يمكن أن نغفل، في هذا المجال، عن الإشارة إلى بعض المؤثرين ممن نجحوا في التصدي لقضايا مهمة، مثل التنمّر والعنف الأسري... وبدعم هؤلاء يصار إلى تصويب مسار "المؤثرين" على مستوى الوطن العربي، لكي يتمكنوا من أن يلعبوا دورهم الإيجابي ويمارسوا تأثيرهم البنّاء في حياة الشباب، بدلًا من الإمعان في تضليلهم وتحريف مفاهيمهم.
(خاص "عروبة22" - إعداد حنان حمدان)