ثقافة

"الإبادة العلميّة": تدمير البنية التعليمية والأكاديمية الفلسطينية!

بيروت - حنان حمدان

المشاركة

إستكمالًا لفعل الإبادة، الممنهج والمقصود، الذي يمارسه الإحتلال بحق الشّعب الفلسطينيّ، منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، تسعى آلة القتل والتدمير الإسرائيلية بشكل جلي ومتعمّد إلى القضاء على ما تبقّى من مؤسّسات عِلميّة وأكاديميّة ومعرفيّة في غزّة، بعدما إستهدفت كامل القطاع الثقافيّ من دور نشر ومكتبات ومتاحف ومواقع أثريّة..، بشكل كليّ أو جزئيّ، وهذا ما أضاءت عليه "عروبة 22" في تقرير مصوّر بتاريخ 13 ديسمبر/كانون الأوّل الفائت، تحت عنوان: "التّراث الثقافيّ" الفلسطينيّ: التدمير المتعمّد.

وإذ تُجمع المصادر الفلسطينيّة على صعوبة الوصول إلى أرقام ولو تقديريّة لحجم الدّمار الّذي لحق بالقطاع العِلمي والأكاديميّ الفلسطيني منذ بدء الحرب على غزّة، ولا حتّى أعداد الضحايا من الطّلاب والأكاديميّين والعامليّن في هذا القطاع، غير أنّ المرصد الأورومتوسّطيّ لحقوق الإنسان قال في بيان نُشر بداية 2024 إنّه وثّق قتل الجيش الإسرائيليّ 94 من أساتذة الجامعات الفلسطينيّة ومئات المعلمين وآلاف الطّلبة خلال الحرب القائمة على قطاع غزّة، وقد ارتفع حجم الخسائر في الأرواح حتمًا منذ ذلك الحين بسبب استمرار جرائم الإحتلال وفظاعتها.

وحتّى الشهر الماضي، أشارت تقديرات الأمم المتّحدة إلى أنّ أكثر من 75% من المدارس والجامعات تمّ تدميرها أو تضرّرت، بشكل كامل أو جزئيّ في قطاع غزّة، منها 6 جامعات من أصل 7، هي: جامعة غزّّة والإسلاميّة والأزهر والقدس المفتوحة والإسراء والأقصى.. ودائمًا بذريعة أنّ هذه المؤسّسات تُستخدم لأغراض عسكرية!.

ولأجل تسليط الضّوء على مفهوم "الإبادة العِلميّة"، بوصفها جزءًا من استراتيجيّة أوسع، كجريمة حرب مُمنهجة تستهدف استئصال وجود الفلسطينيين ونسف حقوقهم، نظّمت مجموعة "علماء من أجل فلسطين" في 27 شباط/ فبراير الماضي، ندوة عبر منصّة "زووم" حملت عنوان "مقاومة الإبادة العِلميّة: الباحثون الفلسطينيّون يتحدّثون علنًا"، تحدّث خلالها الباحث وسام عامر من جامعة غزّة، والباحث نمر سلطاني من مدرسة الدراسات الشرقيّة والأفريقيّة في جامعة لندن (SOAS) والباحثة سندس حمّاد منسقة حملة "الحقّ في التّعليم" التابعة لجامعة بيرزيت (رام الله).

بدايةً، أتت هذه النّدوة لمحاولة فهم هذا المصطلح من منظور مختلف، يكون أوسع وأشمل ممّا هو عليه، ومن أجل وضعه في سياقه القديم-الجديد. بدأت الفكرة بعدما درج مصطلح الإبادة الأكاديميّة والمعرفيّة لغزّة، وهو المصطلح الأشمل والأدقّ، وفق ما تؤكّد منسقة حملة "الحقّ في التّعليم" التّابعة لجامعة بيرزيت سندس حمّاد لـ"عروبة 22".

هذا المصطلح "ليس بجديد" تقول حمّاد، فقد أشارت له البروفيسورة الفلسطينيّة كرمة النّابلسي في مقال نشر في العام 2009 في صحيفة الغاردين البريطانيّة، تحت عنوان "In Gaza, the schools are dying too" قالت فيه إنّ هناك استهدافًا ممنهجًا للتّعليم في غزّة كفعل إبادة. وقد أُعيد استخدام هذا المصطلح بعد أحداث السابع من أكتوبر الماضي، بعدما استهدف الإحتلال الإسرائيليّ البنى التحتيّة التعليميّة، وكذلك الأكاديميّين والعلماء، إناثًا وذكورًا، في مجالات مختلفة، إذ تمّت إبادتهم وعائلاتهم ما يؤكّد فعل الإبادة المقصود والممنهج.

وفعل الإبادة هذا، على صورته الأوسع، يُترجم من خلال كل ممارسات سياسة الإستعمار الهادفة إلى إعاقة الحياة، وليس فقط تدمير المباني والمؤسّسات وقتل الطّلاب والعاملين في المجال الأكاديميّ والمعرفيّ، وهو نهج قديم في فلسطين، عمره من عمر النّكبة، حيث يستهدف من خلاله المحتل، ولا يزال، الطّلبة النّاشطين والأكاديميّين في الجامعات، ويمنع تحرّكاتهم ويعمل على اعتقالهم عند الحواجز العسكريّة، بحجّة تجريم الحركات الطّلابية، ويقتحم الجامعات ويصادر المنشورات الطّلابية... و"هذا أمر مستمر منذ ما قبل الأحداث الأخيرة فما بالك بالوضع راهنًا"، بحسب حمّاد، التي تلفت إلى أنّ "عدد الطّلاب الموقوفين لدى الاحتلال يبلغ راهنًا أكثر من 130 طالبًا من جامعة بيرزيت وحدها، تمّ اعتقال 60 منهم منذ بداية الحرب على غزّة، في حين اقتحم الاحتلال جامعة بيرزيت أكثر من 20 مرّة منذ العام 2000 وحتّى اليوم".

يضاف إلى ذلك، فعل "الإبادة" الممارَس على الرّواية الفلسطينيّة في الكُتُب والمناهج وعلى "السّوشيال ميديا"، فهو أمر محرّم على الطّلاب التداول به، خصوصًا في الداخل المحتل، وجميع هذه الممارسات كانت مستمرة منذ عقود، لكنها برزت الآن بشكل فجّ وأكثر بشاعة في خضمّ الأحداث الأخيرة.

لا تخفي حمّاد الهواجس المتصلة بعدم وضوح مستقبل العِلم والتّعليم في غزّة، "ففي ظلّ كلّ الكوارث الحاصلة تكون الأولويّة للبقاء على قيد الحياة، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، خصوصًا في ظلّ ضبابية المشهد السياسيّ والأمنيّ والصحيّ والكثير الكثير على أرض الواقع، ليحتلّ بالتالي التعليم تحت وطأة الظروف المأساوية الطاغية أسفل سُلّم الأولويّات".

لكن إلى حين انتهاء الحرب، هل يقف هذا القطاع متفرّجًا، وكأنّه غير معني بكلّ ما جرى ويجري؟ تجيب: "دورنا اليوم أبعد من مساندة أو مؤازرة غزّة في مجال التّعليم، وإنما إعادة بناء غزّة وبذل كلّ الجهود من أجل منع طمس الهوية والثّقافة الفلسطينيّة. وهذا ما حاول الباحث نمر سلطاني مناقشته خلال الندوة، فيما تحدث الباحث وسام عامر عن تجربته كونه عايش الواقع في غزّة خلال الحرب الراهنة قبل أن يخرج منها".

وتُعدّد حمّاد سبل مكافحة الإبادة الأكاديميّة والمعرفيّة، والجهود المبذولة لمقاومتها، من خلال "المطالبة بشكل سريع وفوري لوقف الحرب على غزّة، والضّغط ثانيًا عبر المقاطعة الأكاديميّة والثقافيّة ووقف التعامل مع الجامعات والأكاديميّين الإسرائيليّين المتورّطين بشكل أو بآخر بفعل الإبادة، والتي أثبتت أنها أقوى أداة فاعلة وقد صدرت عشرات البيانات المناصرة في هذا الخصوص من جهات دولية مختلفة، وثالثًا فإننا نسعى راهنًا لعقد جلسات حوار بين الطّلاب والأكاديميّين من أجل مناقشة كيفية مساعدة أهالي غزّة، كما أنّ هناك مساعي من وزارة التّعليم العالي والبحث العلميّ الفلسطينيّة بالتعاون مع جامعات الضفّة لوضع خطط ما بعد الحرب من أجل مساعدة الطّلاب والأكاديميّين الغزاويين الذين في كلّ مرّة نتواصل معهم نستمد منهم القوة والأمل، فبالنسبة لنا فإن العلم والمعرفة هو أداة لمقاومة الإحتلال وللخلاص من ويلاته".

وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى المبادرة التي أطلقتها جامعة بيرزيت في 13 آذار/ مارس الحالي، بعنوان "إعادة الأمل" لمساندة الطّلبة ومؤسّسات التّعليم العالي في قطاع غزّة بعد انتهاء الحرب. علمًا أنّ فعل الإبادة هذا لا يقتصر على غزّة فقط، وإنّما طال ويطال القطاع التّعليميّ في الضفّة الغربيّة أيضًا، حيت تتواصل إعتداءات المستوطنين، ويواجه الطّلاب راهنًا صعوبات في الوصول إلى المراكز العلميّة، وقد لجأت بعض الجامعات إلى خيار التّعليم عن بُعد لضمان سلامة الجميع. وفي هذا السياق، لا بدّ من الإلتفات إلى أنّ خريطة الإبادة "عابرة للزّمن" في كامل فلسطين المحتلّة منذ النّكبة الأولى، حين وقعت مأساة تشريد الفلسطينيّين وإخراجهم من قراهم وديارهم.

لكن وعلى الرغم من كل ممارساتها، تجد نفسها إسرائيل أمام جيل فلسطيني صامد شامخ ومصمّم على النهوض من تحت الركام، وهذا ما يظهره أطفال غزّة في كلّ مرّة يطلون فيها على العالم لإعادة توكيد تمسّكهم بأرضهم وأرض أجدادهم وجذورهم وهويّتهم وثقافتهم... العصيّة على الإبادة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن