بصمات

العمران والحداثة (1/2)الدوافع والآثار الاجتماعية

في عام 1720 أوفد الصدر الأعظم في استامبول إبراهيم داماد سفيرًا إلى فرنسا هو محمد جلبي أفندي. وقد جاء الأمر في أعقاب هزيمة عثمانية مدوية عام 1699، حيث سرى اقتناع لدى السلطان ووزيره بضرورة القيام بإصلاحات عسكرية.

العمران والحداثة (1/2)
الدوافع والآثار الاجتماعية

استغرقت سفارة محمد جلبي عدة أشهر زار خلالها باريس. استقبل السفير بحفاوة وكان برنامجه حافلًا بالزيارات واللقاءات بما في ذلك الملك لويس الخامس عشر والوصي على العرش ووزراء. وزيارات للمانيفكتورات والمرصد والأوبرا والقصور الملكية مثل القصر الملكي ومارلي وفرساي.

في عودته إلى استامبول حمل معه خرائط للقصور الملكية. وفي تلك الفترة من ولاية الوزير إبراهيم داماد صهر السلطان أحمد الثالث، انتشرت زراعة زهرة التوليب فعُرفت الفترة باسم عصر التوليب، وأخذ رجال السلطة ببناء القصور على النمط الأوروبي. ولكن عهد السلطان أحمد الثالث انتهى عام 1730، بعد ثورة قام بها أغوات الانكشارية والعامة، وكانت أحد أسباب الثورة حسب المؤرخ أحمد جودت الذي يقول: ظهر في ذلك العصر ميل الدولة إلى السير في طريق المدنية ورغبتها في ترتيب عسكر منظم غير أنها تركت الرؤوس وتمسكت بالأذناب، بل شرعت في زخرفة البنيان من غير أن تنظر إلى أساسه، وذلك أنها بدلًا من أن تبذل الهمة في رواج أسواق الصناعة والفنون المنتشرة في أوروبا انخدعت للسفهاء واسترسلت في طريق الإسراف..". وفي ذلك العهد دخلت المطبعة لأول مرّة إلى استامبول عام 1727، التي أصدرت كُتبًا في الجغرافيا والمعاجم اللغوية وكُتب تاريخية.

لكن ما حدث عام 1730 كان من أحد وجوهه ثورة قوى محافظة رفضًا للتحديث العسكري الذي يهدد وجودها ومظاهر الإسراف في بناء القصور على النمط الفرنسي الذي أثار حفيظة العامة.

الإسكندرية كانت قد شهدت عمرانًا حديثًا دفع الطهطاوي إلى تشبيهها بمدينة أوروبية قبل أن تطأ أقدامه أوروبا

استمرت محاولات التحديث خلال القرن الثامن عشر، وخصوصًا خلال عهد السلطان عبد الحميد الأول (1774-1789) الذي استقدم خبراء أوروبيين وافتتح مدرسة للهندسة. وفي عهد خلفه السلطان سليم الثالث (1789-1707) الذي كان لديه مشروع إصلاح عسكري عُرف باسم النظام الجديد، يقوم على إنشاء قوات نظامية، واستقدم خبراء من فرنسا كانوا يصدرون نشرة يشرحون فيها مبادئ الثورة الفرنسية ويحتفلون بعيد الثورة في 14 يوليو/تموز، ولكن اندفاع السلطان سليم الثالث في التحديث واجه عقبتين، الأولى عام (1798) حين قدم بونابرت إلى مصر على رأس حملة عسكرية مما اضطر السلطان إلى قطع العلاقات مع فرنسا، واعتقال الخبراء والدبلوماسيين. مما يشير بشكل مبكر إلى التناقض بين أن تكون مندفعًا للأخذ بالخبرات والتقنيات والأنظمة الأوروبية، في الوقت الذي تسعى أوروبا إلى احتلال ولاية تحت الحكم العثماني. أما العقبة الثانية فهي التي سبق أن واجهها السلطان أحمد الثالث، وتتمثل بالقوى المحافظة التي أطاحت بالسلطان سليم الثالث وأحرقت إنجازاته.

لم تستمر الحملة على مصر سوى ثلاث سنوات، وكانت آثارها أقل مما أشيع ويشاع حول أنها أيقظت الشرق، لكن الحملة أثارت الشكوك لما قام به الجنود من هدم بعض المعالم وتوسعة الدروب وشق طرقات وإزالة البوابات وتوسعة الطرقات، بل شق طرقات عريضة مستقيمة أثارت انتباه المؤرخ الجبرتي. كانت إجراءات بونابرت تصدر عن فهم مختلف لوظائف الطرق داخل المدينة، أما محمد علي الذي حكم مصر لمدة تزيد على أربعين سنة، وأقام مشاريع بما فيها بناء جيش نظامي وإنشاء مصانع ومدارس لم يكن مهتمًا بالعمران بقدر اهتمامه ببناء جيش حديث وزيادة انتاج مصر الزراعي فضلًا عن إقامة المصانع لخدمة أغراض الجيش وتكوين إدارة متخصصة.

لكن الإسكندرية كانت عُرفت بسبب موقعها كمرفأ على البحر المتوسط، وإقامة جاليات أوروبية فيها، وقد شهدت عمرانًا حديثًا دفع الطهطاوي الذي مرّ بها في طريقه إلى أوروبا عام 1826، إلى تشبيهها بمدينة أوروبية قبل أن تطأ أقدامه أوروبا.

جاءت رحلة الطهطاوي بعد مئة سنة على رحلة السفير محمد جلبي إلى باريس وكانت فرنسا قد عرفت ثلاث ثورات كبرى، ثورة تمثلت بفكر الأنوار وسيادة العقل، وثورة صناعية تمثّلت باكتشاف طاقة البخار وثورة سياسية تمثلت بالثورة الفرنسية الكبرى، لم تعد القصور هي ما يلفت انتباه الطهطاوي ولكن التطور السياسي والمعرفي فضلًا عن حداثة أوروبا، بقوله البلاد الافرنجية قد بلغت أقصى مراتب البراعة في العلوم الرياضية والطبيعية وما وراء الطبيعة، أي بلغت أقصى الحداثة التي يسميها التمدن والحضارة.

حدث في عصر التنظيمات الذي يبدأ مع عام 1839، مع إعلان خط كلخانة الذي يتضمن إصلاحات ورؤيا للتحديث مستمدة من مبادئ الثورة الفرنسية وخصوصًا لجهة المساواة بين الرعايا اندفاع في التحديث شمل الإدارة والتعليم والجيش والقضاء كما حدث اندفاع في العمران الحديث شهدته استامبول والقاهرة والإسكندرية وبيروت.

جاء عصر التنظيمات نتيجة ضغوط أوروبية. وقد تضمنت نصوص فرمان خط كلخانة عام 1839 والتنظيمات الخيرية عام 1856. مبادئ حقوق الانسان والمساواة بين الرعايا في التجنيد والضرائب والمقصود مساواة المسلمين بغير المسلمين. بالإضافة إلى ذلك فإنّ عصر التنظيمات قد عنى اضطلاع الإداريين بإدارة الدولة ومؤسساتها في عهدي السلطانيين عبد المجيد وعبد العزيز أي في المدة بين 1839 و1876. كما أنّ إمساك الإداريين مفاصل الدولة هو نتيجة للقضاء على القوى التقليدية المناهضة للتحديث. فقد تم في مصر القضاء على أمراء المماليك عام 1811، وفي استامبول ثم القضاء على قوات الانكشارية عام 1826. والأمر الذي ينبغي أن نأخذه بالاعتبار أيضًا هزيمة الوهابية كتيار سلفي أصولي عام 1818 من جانب محمد علي باشا والي مصر.

كان العمران الحديث يلبّي حاجتين، الأولى هي خدمة وظائف اجتماعية واقتصادية جديدة مثل الفندق والمصرف والمقهى والمعهد التقني وصرح حكومي يكون نقطة ارتكاز لنمو العمران إضافة إلى الحدائق. وتلبية حاجات سكن الجاليات الأوروبية من تجار أو قناصل وغيرهم، وسكن أبناء البلد من الأثرياء الذين ترتبط أعمالهم بالوظائف الجديدة والذين ينزعون إلى الحياة الحديثة. وعلى هذا النحو نشأ في كل مدينة حيّ عمراني حديث يعبّر عن انقسام غير مسبوق بين المدينة التقليدية والمدينة الحديثة. هذا الانقسام الذي ظاهره عمران يستوحي نمط البناء الأوروبي، يعبّر عن انقسام ثقافي وطبقي، فأولئك الذين اختاروا بناء مساكن خارج النطاق التقليدي كانوا يعبّرون عن تبنّي لثقافة غربية مظاهرها الملبس واستخدام لغة أجنبية وارتباط باقتصاد رأسمالي.

لكن العمران الحديث أو نشوء حيّز حديث إلى جانب المدينة القديمة يعبّر عن تبدّل في مفهوم العمران نفسه، كانت المدينة التقليدية أو القديمة تتوسع بدون تخطيط مسبق والمبادئ الفقهية التي تتناول مسائل البناء تبنى على قاعدة لا ضرر ولا ضرار، ومن يسبق يحدد عمليًا للآخرين كيفية البناء الذي يقوم على أبنية متلاصقة، ومن هنا كتب الفقهاء رسائل في فقه الحيطان. والمغزى الأساسي في فقه العمران هو اشتراط توفر الدروب السالكة وعدم بناء ما يضرّ بالغير. أما العمران الحديث فيقوم على أبنية منفصلة يخضع بناؤها لتخطيط مسبق ولتراخيص وإجازات من السلطات البلدية، حسب وظائفها تجارية أو سكنية أو غير ذلك.

إن المثال الأبرز للتخطيط المدني نجده مع الخديوي إسماعيل في مصر، الذي تسلّم حكم مصر عام 1863، وكان أقام لسنوات عديدة في إيطاليا وفرنسا لتلقي تدريبات وخبرات ودورات في إيطاليا وفرنسا. وقد تأثّر بما شاهده من تخطيط باريس على أيدي البارون هوسمان، الذي بنى باريس حديثة بشوارعها العريضة ومبانيها الحديثة وهدم أبنية لشق الطرقات العريضة.

أراد الخديوي إسماعيل بناء قاهرة جديدة (باريس على ضفاف النيل) متأثرًا بمشاهداته في أوروبا خصوصًا في تخطيط باريس الذي أشرف عليه البارون هوسمان.

مثّل الخديوي إسماعيل الذروة في التحديث في الحقبة التي عرفت في الدولة العثمانية باسم عصر التنظيمات، والتي قادها إداريون وحكام مؤمنون بالتحديث وفق الطرائق الأوروبية إن في مجال الإدارة أو القانون او العمران أو التعليم. وكان التحديث يشمل أيضًا التأثر بالأفكار التي عبّر عنها كل من الطهطاوي وعلي مبارك لجهة قيم الوطنية والمساواة وتربية المرأة إلخ، وتبني الدستور كما حدث في تونس في وقت مبكر عام 1857 وفي استامبول في بداية عهد السلطان عبد الحميد الثاني عام 1876، وفي مصر نهاية عهد إسماعيل عام 1879.

يرتبط تاريخ بيروت منذ بدايات القرن التاسع عشر بالتحديث العمراني الذي ارتبط بدورها التجاري 

ومن الناحية العمرانية كان البناء يترافق مع الهدم لإخضاع المدينة القديمة لشروط التخطيط الحديث الذي يشمل إيصال المياه وإقامة صرف صحي وشق طرقت ومكافحة الأمراض والحرائق وكذلك السيطرة الأمنية. وكان ثمة دوافع للتخلص من الماضي التاريخي والإرث العثماني. هذا الاندفاع ترافق مع بناء الصروح الرمزية مثل الصادقية في تونس التي لا تزال إلى اليوم رمزًا للتحديث التربوي. ومثل العديد من الصروح التي ترمز إلى التحديث في القاهرة كدار العلوم، ودار الكتب ومدارس الحقوق والهندسة والجسور (الكباري) فضلًا عن القصور والمتاحف.

وبالرغم من أنّ التحديث العمراني الذي لا ينفصل عن أوجه التحديث الأخرى، فإنّ لكل مدينة تجربتها واستجابتها أو مقاومتها. ومن هنا فإنّ بيروت تاريخها منذ بدايات القرن التاسع عشر يرتبط بالتحديث العمراني الذي ارتبط بدورها التجاري من إنشاء المرفأ والكرنتينا إلى شق طريق دمشق وما تخلل ذلك من أبنية هي مؤسسات تجارية وفنادق ومقاهي، والجامعتين الأميركية واليسوعية. إضافة إلى ما أنشأه العثمانيون من مباني حكومية. وفي السنوات الأخيرة من الحكم العثماني فإنّ رجال حزب الاتحاد والترقي المتأثرين بالوضعية الفرنسية حسب أوغست كومت كانت لديهم النزعة إلى كل ما هو قديم من أبنية وأحياء.

ففي كتاب ولاية بيروت وهو تقرير مفصل عن أحوال الولاية يوصي الكاتبان محمد بهجت ورفيق التميمي بهدم مدينة طرابلس القديمة بسبب رطوبتها وانتفاء الحاجة إليها، وكان حاكم المدينة قد شق الطريق المستقيم التي تصل المدينة بالميناء. وحين أصبح واليًا على بيروت أمر بهدم المدينة القديمة أو ما تبقى منها.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن