ومنه يبدو في الظاهر، أنّ هذا المجتمع لا يخصّ المجتمعات العربية، التي لم تبلغ مستوى الحداثة ولم تشارك فيها إلا قسرًا من طريق الاستعمار، إلا أنّ ذلك لم يمنع من سقوط الأزمنة الحديثة عليها، وكان من نتائج ذلك أن دخلنا كعرب كتلة واحدة أو متفرقين حالة "مجتمع المخاطر العالمي"، مرد ذلك إلى ما يميّز هذا المجتمع من سمات، أهمها عدم التمركز بمعنى أنّ أسبابه وآثاره لا تقتصر على مكان أو نطاق جغرافي معين، ولذلك تمددت فواعله إلى ما وراء الجغرافيا الغربية (الشرق الأوسط وأفريقيا)، وعدم قابليته للحساب والتقدير (لا توجد إحصاءات وأرقام دقيقة حوله)، وعدم قابليته للتعويض (لا يمكن تعويض آثاره وخسائره)، ولكونه كذلك – غير قابل للتعويض - يحل مبدأ الحماية لتلافي أخطاره من طريق الوقاية، وتتحقق هذه الوقاية بفعل القدرة على التنبؤ بالمخاطر التي لم يثبت بعد وجودها ومن ثم منع وقوعها (الحرب على العراق مثال على ذلك).
في اللحظة التي تصبح فيها المخاطرة واقعًا فهي تتحول بطريقة آلية إلى كارثة
وعملًا بمبدأ الوقاية هذا - والذي كانت الجغرافيا العربية من بين أخرى مسرحًا له -عملت أعظم قوة في العالم وحلفاؤها منذ زمن على قيادة العالم من حرب إلى أخرى، ودعم انقلابات وثورات مضادة وأنظمة استبدادية، تلافيًا للمخاطر المتوقعة، وحيث بدا أنّ الديموقراطية تشكل خطرًا على مصالحها، واستنزاف ثروات البلدان النامية البشرية منها والمادية، وإبرام اتفاقات وعقد صفقات ومشاريع مخصوصة حسب ما يتماشى مع أهدافها، كل ذلك تحت غطاء الوقاية وتلافي الأخطار المتوقعة، وكان من نتائج ذلك على الصعيد العربي أن دخلنا مرحلة "مجتمع الإجهاد".
إضافة إلى هذا النوع من المخاطر، شكلت العديد من الكوارث التي ضربت بلدانًا عربية بعينها مؤثرة في المناخ العربي كافة (زلازل، فيضانات، حرب إبادة، تلوث بيئي، جفاف، استنزاف موارد..) ، انعكاسًا لإجهاد عربي من نوع آخر، وفي كتابه "مجتمع المخاطر العالمي" فرّق أورليش بيك بين المخاطرة والكارثة، فالمخاطرة تعني التنبؤ بالكارثة، أي أن المخاطرة تتعلق بإمكانية أن تطرأ أحداث وتطورات مستقبلية لا توجد (حتى الآن)، بينما يكون لكل كارثة محددة مكانها وزمانها واجتماعها، وفي اللحظة التي تصبح فيها المخاطرة واقعًا، فهي تتحول بطريقة آلية إلى كارثة. ومنه فالكارثة هي دائمًا حادثة راهنة وآنية، بينما المخاطر هي دائمًا أحداث مستقبلية.
من ذلك أيضًا، أن دخلت الدول العربية - كما معظم بلدان العالم - في العام 2019 مرحلة "مجتمع الجائحة" (كوفيد19)، والجائحة تختلف عن الكارثة من حيث طابع السيولة والانتشار واسع النطاق الذي يطالها، إضافة إلى القدرة على القياس والتكميم. ونتيجة للآثار الاقتصادية والاجتماعية والصحية التي خلفتها إجراءات الحجر الصحي وفرض التباعد، كانت المجتمعات العربية تتقدم أكثر نحو "مجتمع الإجهاد" (Achill Mbembe): إجهاد اجتماعي (اتساع الفروق بين الفقراء والأغنياء)، وإجهاد سياسي (التفكك واستعصاء الانتقال الديموقراطي خاصة بعد ثورات الربيع العربي)، وإجهاد اقتصادي وثقافي وعقدي وبيئي وفني...
ويمكن أن نفهم "مجتمع الإجهاد" على أنه إجهاد الأجساد البشرية ذاتها، وكل جزء منه مجهد بتناقضاته الاجتماعية بين الفقراء والأغنياء، وبين ذوي الموارد وفاقديها، وبين المعترف بهم وغير المعترف بهم، وبين الخائضين في الحياة الاجتماعية والمبعدين منها (منير السعيداني)، إنه حالة نفسية وشعورية أصبح يعيشها المواطن العربي حيث يقيم، بفعل التعرّض المطرد لانعكاسات المخاطر العالمية والكوارث والجائحة، وتزايد الضغوطات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والصحية والبيئية المحلية والعالمية، بما يفوق قدراته وإمكاناته وأفق تطلعاته، مع تنامي الإحساس بالشك والخوف وعدم اليقين إزاء حياته وأوضاعه في بلده.
كيف يمكن توحيد أنظمة ومواطنين فرّقتهم القوى الاستعمارية إذا لم يكن من طريق الخطر ذاته
في الواقع يعتمد مجتمع المخاطر العالمي بعض الشيء على "مجتمع الإجهاد" هذا، وذلك للتعامل مع "عدم الأمن المصنع"، مثل هذه الضرورات – بحسب أورليش بيك - تخلق بالطبع أسواقًا كبيرة ومتنامية للتكنولوجيا والخبراء ورؤوس الأموال والمنتجات، إنّ مجتمع المخاطر عبارة عن صفقة كبيرة، تتعاظم أرباحها مع زيادة الطلب على صناعة الخوف وعدم اليقين في البلدان العربية وخارجهاـ ومن ثم المتاجرة فيها (الاضطرابات السياسية، الثورات المضادة، لقاحات كورونا، تكنولوجيا الرقابة والتجسس، تكنولوجيا غمر الأنفاق..), بمثل هذه التوصيفات، صارت المجتمعات العربية تعيش "بيسر وعلى المباشر انتشار مشاعر الخوف، وهواجس الريبة، وتقليعات الموضة وإحداثيات الكساد الاقتصادي، ومشاهد اقتلاع الناس من أوطانهم، ووقائع تيه اللاجئين بين الحدود وعلى امتداد الصحارى والبحار، ومواقيت اندلاع موجات الغضب الاحتجاجي، واقتراف العمليات الإرهابية" (منير السعيداني).
غير أنّ بصيص الأمل في مثل ما يعيشه "مجتمع الاجهاد العربي" من مشاعر الخوف وعدم اليقين والاقتلاع، قد تكون هي ذاتها، فكيف يمكن توحيد أنظمة ومواطنين فرّقتهم القوى الاستعمارية، وجشع الشركات وبرغماتية الفاعلين السياسيين، إذا لم يكن من طريق الخوف والخطر ذاته!!!.
(خاص "عروبة 22")