الأصل في الملك، من منظور فودة، هو نظام الحكم، به يبدأ العدل فيتكرّس، وبه ينتهي. والقصد بنظام الحكم هنا، إنّما تلك "الصيغة المؤسسية المتصفة بالموضوعية والحياد والاستقلالية والشرعية وعلوية القانون"، أي صيغة الدولة، بنظامها المؤسّساتي، بأطرها الدستورية والقانونية، بشرعية قراراتها، وبقدرتها على إنفاذ ذات القرارات، بالحسنى، أو بالقوة، أو بهما معًا.
الدولة تقام على أساس المرجعية العقلانية القانونية التي تنتجها الرعية ذاتها
ولمّا كان الأمر مرتبطًا بطبيعة الدولة، فإنّ العدل من بين ظهرانيها، يلتمس من إحدى مدخلين:
ــ إمّا من مدخل مبادئ العدالة والمساواة والإنصاف بين مكونات الرعية أفرادًا وجماعات، فيكون إحقاق ثنائية الحق والواجب هو المحبذ.
ــ أو من مدخل احتكام الدولة لوجهة النظر الواقعية، فتحتكم بناء عليها، إلى معايير البطش والقهر وتغليب مقياس العصبية في التمييز بين الأفراد والجماعات.
بالمدخل الأول، يتم إعمال فكرة العقد الاجتماعي، فتصاغ على أساسه ضوابط نظام الحكم وقيمة العدالة. بالمدخل الثاني، تسود القوة والإخضاع، فيغيب التعاقد، وينتفي العدل كمعيار أخلاقي مؤطر.
إنّ إحدى محددات مقولة "العدل أساس الملك"، إنما تكمن في التنافر حول مرجعية الدولة ذاتها:
ــ مرجعية دينية خالصة، تنبني على تصوّر أنّ إقامة الدولة إنّما هو غاية من غايات الشريعة. إنّها صيغتها التطبيقية التي من شأنها إقامة العدل وإلزام الراعي بموجبات النص.
ــ ومرجعية مقابلة، مفادها أنّه إذا كان العدل هو غاية النص، فإنّ مخالفة هذا الأخير "من أجل العدل أصح في ميزان الإسلام الصحيح من مجافاة العدل بالتزام النص".
وعليه، فإنّ "وجود حاكم صالح ورعية صالحة وحكم ملتزم بالشريعة، ليس ضامنًا لدولة عادلة وقوية ومتقدمة، دون وجود نظام صارم لتعيين الحاكم ومحاسبته، وعزله إن لزِم الأمر".
الدولة من هذا المنطلق، إنّما تقام على أساس المرجعية العقلانية القانونية، التي تنتجها الرعية ذاتها، وتحدّد بمقتضاها معايير المواطنة والمشاركة ومساءلة الحاكم وعلو مقام المجتمع المدني.
ولذلك، يرى البعض أنّ "ضعف الشرعية الذي يعاني منه نموذج الدولة في العالم العربي ليس إجرائيًا مرتبطًا بقصور في أداء دورها تجاه أفراد المجتمع فحسب، وإنّما جوهري يرتبط بإشكالية بنيوية تتعلّق بأزمة التأسيس".
بالتالي، فمقولة "العدل أساس الملك" إنّما هي مقولة تتجاذبها سرديات مختلفة، بعضها ينهل من التراث، وبعضها يحاول التأسيس بالبناء على ما بلغه التطور الإنساني، باعتبار العدل ضرورة أخلاقية وجودية للدولة.
لذلك، لا يتردّد فودة في القول: "إنّنا نقبل بمنطق الصواب والخطأ في الحوار السياسي لأنّ قضاياه خلافية، يبدو فيها الحق نسبيًا والباطل نسبيًا أيضًا، ونرفض أن يدار الحوار السياسي على أساس الحلال والحرام، حيث الحق مطلق والباطل مطلق أيضًا، وحيث تبعة الخلاف في الرأي قاسية".
المطلب هو الانتقال من الأحادية إلى التنوّع ومن القبيلة إلى المجتمع المدني ومن الريعية إلى التنمية
هي عملية معقدة، لكنها تستوجب العمل على مستوى العقل العربي، وتحويله برأي البعض "من عقل عقيدة وقبيلة وغنيمة كما صنّفه الجابري، إلى عقل يعتنق التعدّد وثقافة الرأي والرأي الآخر بديلًا عن الشمولية العقدية، وأن تتحوّل القبيلة إلى مجتمع مدني، والغنيمة المتمثلة بالريع، إلى اقتصاد الضرائب".
المطلب إذن هو الانتقال من الأحادية إلى التنوّع، من القبيلة إلى المجتمع المدني، ومن الريعية إلى التنمية، فتصبح مقولة "العدل أساس الملك"، مبنية سلفًا على مرتكزات الديمقراطية والتعدّدية ودولة الجباية.
(خاص "عروبة 22")