تؤشّر عديد المعطيات المعاصرة والراهنة إلى وجود خللٍ بنيويٍ عميقٍ في نوعية العلاقات الرابطة بين أفراد تلك النخبة إلى حدّ ذهب فيه بعض الملاحظين إلى عقد مقارنة بين ما هو منتظرٌ وواجبٌ من تلك النخبة، وواقعها المتحقّق أو الحاصل في مستوى غياب أو ضعف أشكال التضامن والتعاضد بين مختلف عناصرها ومكوّناتها بمختلف المسائل بما في ذلك المسائل المهنية القطاعية والإنسانية مقارنة حتّى بلاعبي كرة القدم الذين يتضامنون ويتآزرون عند سقوط أحدهم على أرضية الميدان إلى حدّ الاحتجاج وإيقاف اللعبة، على عكس اللامبالاة الطاغية على ردود أفعال النخبة العربية حين يتعرّض أحد أعضائها إلى محنة ما.
لقد أفرز ذلك الفقر العلائقي انعكاسات خطيرة أضرّت بالقيمة الاعتبارية والرمزية لتلك النخبة، حيث تراجعت مكانتها منذ النصف الثاني من القرن العشرين وتعمّقت الأزمة واستفحلت أكثر خلال العقود الثلاثة الأخيرة ولا سيما بعد سنة 2011 ضمن ما يُعرف بأحداث "الربيع العربي".
تراجعت النخبة العربية الراهنة من التأثير والمشاركة في صنع القرارات إلى تبرير وتجميل السياسات السائدة وتنفيذها
ففي الوقت الذي كان من المنتظر فيه أن تشكّل تلك النخبة "كتلة تاريخية" تسهم في التغيير الحضاري الإيجابي بإبداع مشروعها الجامع الشامل في قيادة ذلك التغيير، فإنّها انخرطت في مسايرة خطيّة لايديولوجيات مسقطة على الواقع العربي. وهو ما عمّق الفجوة بين النظر والعمل أو الفكر والممارسة. وخلق فجوة يصعب تجسيرها بين تلك النخبة ومجتمعها الأكاديمي والموسّع.
تضمّن الخطاب العربي مؤشّرات عديدة لتلك الأزمة رغم أنّه ككلّ خطاب يضمر مسائل تسعى استراتيجيته الخطابية القائمة إلى إخفائها والتعمية عليها. تتّصل تلك المؤشّرات بالتراجع المذهل من النظر الجادّ أو التفكير المعمّق في قضايا النهضة والثورة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وغيرها من القضايا الحيوية إلى تبرير ما هو سائد ضمن تأويل فئوي تطميني لمفاهيم الواقعية السياسية والبراغماتية.
والواقع أنّ ذلك التحوّل في مستوى الخطاب لم يكن تحوّلًا عفويًا أو إراديًا مثلما قد يتبادر إلى الذهن، وإنّما اقترن بتحوّل أعمق وأخطر. فلئن كان عدد من روّاد النهضة العربية مؤثّرين بارزين في السياقات العامة لعصرهم مثل الطهطاوي بمصر وخير الدين باشا بتونس، فإنّ النخبة العربية الراهنة تراجعت من التأثير والمشاركة في صنع القرارات إلى تبرير وتجميل السياسات السائدة وتنفيذها ضمن ما يعرف غالبًا بـ"التكنوقراط".
خلق هذا الوضع الجديد ما لا يقلّ عن فئتين من النخبة: نخبة المركز والسلطة المتمثّلة في "التكنوقراط" تحظى بالوجاهة والحظوة والتبجيل في تبوّأ مكانة معتبرة في السُّلم السياسي والاجتماعي، ونخبة الهامش التي ظلّت تكدح وتسعى جاهدة إلى استعادة المكانة الحقيقية للمثقف المؤتمن على التغيير الحضاري الإيجابي انطلاقًا من نقد الواقع القائم أو على الأقلّ عدم التورّط في تبريره وتجميله. إلاّ أنّ تلك المحاولات ظلّت دون فعّالية وتأثير في ظلّ التحوّلات التي أفرزتها العولمة وتشكّل ما يسمى بـ"المجتمع الشبكي".
مبادئ الكفاءات وتكافؤ الفرص والشفافية والنزاهة تحتاج إلى حاضنة سوسيوثقافية تنسجم معها وترسّخها
إنّ تجاوز ذلك الاضطراب العلائقي في مستوى علاقات النخبة العربية في ما بينها وبمجتمعها والنُظم السياسية والثقافية القائمة لا يمكنه أن ينجز بحلول ترقيعية أو جزئية. إذ لا غنى عن تأسيس "مجتمع الاقتدار" الذي كرّس فعليًا وعمليًا جملة من الأخلاقيات والمبادئ التي أثبتت جدواها في مختلف السياقات التاريخية.
يمكن أن نذكر منها مبادئ تقديم الكفاءات على الولاءات، وتكافؤ الفرص، والشفافية والنزاهة، حيث تحتاج هذه المبادئ بدورها إلى توفّر حاضنة سوسيوثقافية تنسجم معها وترسّخها في إطار ثقافة الاعتراف التي تزيل كلّ أشكال الغبن والقهر والإكراه والتحايل على القانون والإفلات من العقاب. ولا جدال أنّ وعي النخبة العربية بذاتها وبالآخر شرط أساسي لترسيخ ثقافة الاعتراف. إذ يخلق اكتمال ذلك الوعي ونضجه تجاوزًا للتحيّزات الشخصية والفئوية والمهاترات الجانبية إلى التركيز على القضايا العليا ذات الأولوية، في مقدّمتها الإسهام في صياغة مشروع تغيير حضاري شامل والعمل على مأسسته وتنفيذه.
(*) أنظر: المنصف ونّاس، الشخصية التونسية محاولة في فهم الشخصية العربية، الطبعة الثالثة، الدار المتوسّطية للنشر، تونس، 2017.
(خاص "عروبة 22")