اقتصاد ومال

واقع العملات العربية في السوق الدولية

محمد زاوي

المشاركة

عرفت البلاد العربية عملاتها النقدية مبكّرًا، كمرحلة طبيعية لتطور مبادلاتها التجارية، وذلك قبل تشكل الظاهرة الاستعمارية بقرون؛ خاصّة إذا تحدثنا عن دول عريقة مثل المغرب ومصر. وتُعتبَر النقود الوسيلة الأبرز للتبادل التجاري بعد اكتشاف المعادن (خاصة الذهب والفضة)، وبعد استنفاد المقايضة العينية لأغراضها الاقتصادية في الشرط الجديد، حيث احتكار الملكيات الخاصة لدى فئات دون أخرى. ومعلوم أنّ هذا الشرط لم يكن وليد الاستعمار، بل هو شرطٌ قديمٌ قِدَم الدولة أو ما قبلها.

واقع العملات العربية في السوق الدولية

في واقع ما قبل استعماري، توزعت أغلب المبادلات العربية على نموذجين؛ نموذج حضري قائم على النقود، وآخر قروي قائم على المقايضة. ينفتح ه‍ذا الأخير على الأول بقدر حاجته إلى المنتوج الحضري، وبقدر حاجة ساكنة وتجار المدن للمنتوج القروي. وعادة ما كان التبادل يتم، في هذه الحالة نفسها، على أساس المقايضة التالية: منتوج قروي بمنتوج حضري، إلّا إذا فرض تجار المدينة معاملات نقدية على الفلاحين القرويين.

ومنذ تدخل الاستعمار الأجنبي، خضعت البلاد العربية لتحوّلات قسرية على مراحل هي:

- فرض العملات الأجنبية: وهذه سياسة أنتجها التفاوت بين الإمبرياليات وبلدان الجنوب، ما أدى إلى اختراق أسواق هذه الأخيرة عبر اتفاقيات تجارية اضطرت إليها لتنمية قدراتها الاقتصادية، أو لاضطرارٍ سياسي ناتج عن انهزامٍ عسكري أو لجوءٍ للاقتراض من الأبناك الرأسمالية. ونتيجة لهذا الاضطرار السياسي/الاقتصادي اخترقت العملات النقدية الأجنبية المدن بالتزامن مع اختراق السلع الوافدة لأسواقها، كما اخترقت المبادلات النقدية القرى و"النظم الإنتاجية الطبيعية" اختراقًا غير مسبوق أدى إلى تفكك "الإنتاج الطبيعي" (أنظر لمزيد من التفصيل: عبد السلام الموذن، دراسة "الأسس المادية للثورة التحديثية بالمغرب").

- فرض السياسة النقدية: تشكلت الظاهرة الاستعمارية كنتيجة للانتقال من "الرأسمالية التنافسية" إلى "الرأسمالية الاحتكارية"، وذلك لأنّ هذه الأخيرة لم تعد في حاجة إلى تصدير بضائعها فحسب، بل إلى تصدير رأسمالها المالي إلى دول الجنوب - ومنها الدول العربية - بغرض استثماره بتكلفة أقل، مستفيدةً من غنى الطبيعية ومجانية اليد العاملة (أو الانخفاض الكبير لسعر قوة العمل). وقد رافق هذا التصدير تأسيس أبناك الرأسمال الربوي ووضع سياسات نقدية ملائمة فرضها الاستعمار العسكري، خدمة للرأسمال الأجنبي ومصالحه في البلاد العربية المستعمرة.

- فرض "التقسيم الدولي للنقود": وذلك بعد حصول دول الوطن العربي على استقلالها، ومن ثم تأسيس نظام نقدي جديد (بريتون وودز/ 1944) يتجاوز كساد الحربين العالميتين الأولى والثانية ("الكساد الكبير" بتعبير فلنتاين كاتاسنوف)، ثم الانتقال إلى أسلوب أكثر تحكمًا وسيطرةً فيما بعد (اتفاقيات جامايكا، 1976) (بريتون وودز، فلنتاين كاتاسنوف).

دول كالصين وروسيا تستغل اليوم أزمات الرأسمال الغربي لتبحث لها عن أسواق نقدية جديدة

في إطار هذا "التقسيم الدولي الإمبريالي للنقود"، وجدت الدول العربية نفسها - بحكم انتمائها إلى "العالم الجنوبي" - أمام تحديات كبرى أبرزها: الحاجة إلى قروض تقدَّر بالعملة الأجنبية (سيطرة الدولار)، التصدير والاستيراد وفق العملة نفسها (راجع كتاب "دراسات في الاقتصاد السياسي: الإمبريالية والبلدان النامية"، يوري بوبوف)، وما نتج عن ذلك من تفاوت كبير بين العملات العربية والعملات المسيطرة (خاصة الدولار)، بل إنّ الدول النفطية والغازية نفسها لم تسلم من هذا التفاوت، لأنّ "التقسيم الدولي" يشمل النفط نفسه.

- فرض الأزمات: وهي عديدة لعل أبرزها اليوم، التضخم العالمي الذي أفرزه النظام المالي السائد عالميًا، واستنفاد "البترودولار" لأغراضه الإمبريالية وما نتج عنه من مطالب بتعويض الدولار بالذهب في مَعيرة العملة (وهو ما يُعبّر عنه بالصراع بين آل روتشيلد وآل روكفلر. راجع كتاب "بريتون وودز: الأحداث المفصلية في التاريخ المالي الحديث"، لفلنتاين كاتاسنوف)، بالإضافة إلى دخول العالم في موجة جديدة من العملات وهي تلك المسماة بـ"العملات الرقمية" بما تؤدي إليه من إرباك مقصود للنظام المالي الدولي (راجع كتاب "العملات الرقمية المشفرة: الطريق إلى معسكر اعتقال إلكتروني" لفلنتاين كاتاسنوف).

الدول العربية مطالبة بالبحث عن بدائل تحسّبًا لتهاوي وتهالك "العملة الإمبريالية"

إنّ الرأسمال المالي العالمي، في مرحلة فوضاه وتعفنه، لَيفرض هذه الأزمات - وأخرى - على دول الوطن العربي (كباقي دول الجنوب)، ويحُول دون امتلاكها لسيادتها النقدية الكاملة. غير أنّ دولًا كالصين وروسيا تستغل اليوم أزمات الرأسمال الغربي (الأميركي) لتبحث لها عن أسواق نقدية جديدة بقواعد تختلف عن قواعد "التبادلات النقدية الإمبريالية".

وحيث يعسر على دول الوطن العربي الانفصال الكلي عن النظام المالي القائم و"السائد" دوليًا، فإنّها مطالبة بالبحث عن بدائل أخرى تحسّبًا لأي تحوّل نقدي تبشر به "التنبؤات" الاقتصادية القائلة بتهاوي وتهالك "العملة الإمبريالية".

بل إنّ الدول العربية في هذا الشرط مطالبة بالمشاركة في مبادلات جديدة بعملاتها المحلية أو بعملات وطنية وقومية غير "العملة المسيطِرة"، بالإضافة إلى فتح أسواقها النقدية لأبناك صاعدة تؤسّس لنموذج يناقض النموذج الإمبريالي التفاوتي السائد/القديم.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن