شغلت قضية الأمن الغذائي والفجوة الغذائية الكثير من دول العالم، لما لها من تأثيرات مباشرة على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، إذ يؤدي انعدامه أو قلّته، إلى عدم الاستقرار والاضطرابات والهجرات الجماعية في بعض الأحيان، وقد فاقمت الحرب الروسية الأوكرانية أزمات الغذاء والطاقة والاقتصاد، ما سيكون له آثار كبيرة على أكثر الناس والدول والاقتصادات الهشه في العالم، إذ إنّ روسيا وأوكرانيا مسؤولتان عن نحو 30% من تجارة القمح العالمية، ومن ثم فإنّ أيّ اضطراب خطير في الإنتاج والتصدير، يؤثر على الأمن الغذائي لملايين الأشخاص الذين يعانون بالفعل من تضخم أسعار الغذاء.
تتمثّل العلاقة في وجود فجوة غذائية متفاقمة أهم جوانبها الفجوة الغذائية في الحبوب، وتصل إلى حد عدم المقدرة على تحقيق الأمن الغذائي من تلك المحاصيل، ومن ثم تكمن ملامح المشكلة الأساسية في وجود فجوة غذائية في محاصيل الحبوب في الدول العربية، تتزايد بشكل واضح مع تزايد عدد السكان، وينجم عنها تدني المستوى الغذائي.
وقد تأثرت المنطقة العربية بشكل كبير من تبعات الحرب، نظرًا لأنها تستورد حوالى 42% من احتياجاتها من القمح و23% من احتياجاتها من الزيوت النباتية المستوردة من كل من أوكرانيا وروسيا، بحسب برنامج الغذاء العالمي، إذ في عام 2008 أصدرت المنظمة العربية للتنمية الزراعية خلال دورتها الثلاثين "إعلان الرياض" لتعزيز التعاون العربي لمواجهة أزمة الغذاء العالمية، والذي تضمن إطلاق مبادرة لبرنامج عربي طارئ للأمن الغذائي تهدف إلى زيادة واستقرار إنتاج الغذاء في الوطن العربي، وبخاصة الحبوب والبذور الزيتية والسكر.
سياسات بعض الدول العربية لم تمنح الأولوية في خططها الاقتصادية للمشروعات الزراعية ولم تدعم المزارعين
كما أصدرت المنظمة ذاتها "إعلان نواكشط" للأمن الغذائي العربي المستدام الذي أطلق استراتيجية التنمية الزراعية العربية المستدامة 2030، والبرنامج العربي لاستدامة الأمن الغذائي والذي يهدف إلى زيادة مستويات الإنتاجية والإنتاج الزراعي من السلع الغذائية الأساسية بنسبة لا تقل عن 30% خلال السنوات العشر القادمة، ورغم كل تلك المبادرات، لا تزال المنطقة العربية تعتمد بشكل متزايد على الاستيراد لتغطية جل احتياجاتها من السلع الغذائية الأساسية بنسبة كبيرة، إذ إنّ الارتفاع الكبير لمعدّل النمو السكاني السنوي، لم يرافقه توسّع في الرقعة الزراعية أو زيادة عائدات المحاصيل.
وتتّسم المنطقة العربية بالتنوّع والتفاوت بين دولها، فيما يتعلق بنوعية الأرض وكميات المياه المتاحة والموارد الطبيعية والظروف الاقتصادية والمناخية. وباستثناء دول الخليج العربي، يمثّل الإنتاج الزراعي أهمية كبيرة للمنطقة، ولكنها لا تنتج ما يكفيها من القمح والأرز والخضروات والزيوت النباتية وحبوب العلف، فتلجأ إلى استيرادها، إذ إنّ المنطقة العربية من بين مناطق العالم التي تعاني من نقص في المياه، وهناك بعض التوقعات بأنّ الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ستكون من أوائل المناطق في العالم التي ستنضب مياهها.
ومعلوم أنّ معظم أراضي دول الخليج العربي صحراوية تعاني من قلة موارد المياه ما يجعل الزراعة فيها عملية صعبة، كما أنّ العديد من الدول العربية تشهد تدهورًا بيئيًا بشكل مستمر، وهو ما يحدث نتيجة لاستنزاف المصادر الطبيعية كالماء والهواء والتربة وتدمير النُظُم البيئية وانقراض الحياة البرية، وقد كان لتداعيات التغيّر المناخي آثار مدمرة على الإنتاج الزراعي في بعض الدول العربية في الأعوام القليلة الماضية، فارتفاع درجات الحرارة الشديد وما رافقه من ندرة الأمطار أديا إلى انخفاض عائدات بعض المحاصيل الرئيسية وتفشي آفات زراعية جديدة.
الرؤیة المستقبلیة تستلزم توافر إرادة سیاسیة ملتزمة بتوفیر التمویل وجھودًا عربیة جادة على طریق التكامل
لكنّ العوامل الطبيعية ليست وحدها التي أدت إلى عدم تحقيق اكتفاء ذاتي من المحاصيل الغذائية الرئيسية، فقد ألقى كثير من الخبراء باللوم على سياسات بعض الدول العربية التي لم تمنح الأولوية في خططها الاقتصادية للمشروعات الزراعية، ولا سيما تلك التي تركّز على المحاصيل الأساسية كالقمح، كما أنها لم تدعم المزارعين، ما أدى إلى تدهور الإنتاج الزراعي، ودفع بالمزارعين إلى الهجرة إلى المناطق الحضرية أو الخارج.
من الجدير بالإشارة، أنّ دول مجلس التعاون الخليجي تستورد نحو 90% من احتياجاتها الغذائية من دول بينها روسيا وأوكرانيا، ولكنها تمكنت حتى الآن من الصمود أمام تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا على الأسواق الزراعية، وقد أدت جملة من السياسات التي تنتهجها دول المجلس، من بينها تنويع مصادر الاستيراد، والاستثمار في تقنيات إنتاج المحاصيل الغذائية في المناطق الجافة، وقيام بعضها بشراء أراضٍ زراعية في دول أجنبية، إلى تقوية وضع الأمن الغذائي في تلك الدول، كما أنّ ارتفاع أسعار النفط مكّنها كذلك من امتصاص الزيادات الكبيرة في أسعار الغذاء وحماية مواطنيها من انعدام الأمن الغذائي.
إنّ تحقيق رؤية مستقبلیة لسد الفجوة الغذائیة وتحقيق الأمن الغذائي العربي في إطار سبل مواجهة المتغيرات الإقتصادية، سوف یحتاج إلى إلتزام مستمر ومراجعة شاملة للعوامل التي تُسھم في انعدام الأمن الغذائي في المنطقة العربیة، ویجب التأكید على أنّ كافة المحاولات السابقة، التي كان ھدفھا تحقیق الأمن الغذائي العربي، اصطدمت بالعدید من العوائق التي حالت دون تحقیق نتائج إیجابیة ملموسة من تلك المحاولات، وخاصة عائق توفیر التمویل اللازم لتحقیق الأمن الغذائي للدول العربیة.
وفي إطار الرؤیة المستقبلیة، فإنها تستلزم بالضرورة توافر إرادة سیاسیة قویة داعمة وملتزمة بتوفیر التمویل، حیث یُعد أحد المرتكزات الأساسیة التي یجب العمل علیھا، توطید التعاون التنسیقي الإقلیمي في ھذا المجال، وهو یتطلب جھودًا عربیة جادة على طریق التكامل في جمیع الأصعدة، وخاصة تلك المتعلقة بتحسین الإنتاج الزراعي وزیادة حجم التجارة الزراعیة البینیة، والسعي نحو إحداث تحوّلات جذریة في تطویر الأعمال الزراعیة بما یتواكب مع التطور التكنولوجي، الذي قد یكون ھو الطریق لسد فجوة الغذاء العربیة خاصة في ظل توافر العدید من المقوّمات في الأراضي العربیة.
جذب الاستثمارات الأجنبیة للمشاریع الزراعیة من خلال منحھا مزایا تفضیلیة تفوق مجالات الاستثمار الأخرى
وفي الختام، لا بد من إعمال العناصر التالیة برؤیة أكثر تعمّقًا وبما یتواكب مع مستجدات العالمیة، ومنھا أن تُقدِم الدول العربیة على إجراء المزید من الإصلاحات في البیئة التشریعیة والتنفیذیة للاستثمار الزراعي، بھدف جذب الاستثمارات الأجنبیة للمشاریع الزراعیة من خلال منحھا مزایا تفضیلیة تفوق مجالات الاستثمار الأخرى، والتي یمكن أن تُحسّن من مستویات الإنتاج والتشغیل وبما ینعكس على توفیر الغذاء في المنطقة العربیة. كما من الضروري، زیادة نصیب قطاع الزراعة في موازناتھا العامة مع التركیز على تمویل البنیة التحتیة الزراعیة والأبحاث الزراعیة التي ستساعد على زیادة الإنتاج الزراعي أفقیًا ورأسیًا، والمراقبة الدائمة للمخزونات الغذائیة من السلع الاستراتیجیة في المنطقة العربیة، والتنسیق والتعاون على المستوى الإقلیمي لسد احتیاجات الدول العربیة من السلع الأساسیة.
(خاص "عروبة 22")