تقدير موقف

لماذا نراهن على الإنترنت في نهضتنا البديلة؟ (1/3)تطورات الواقع التكنو-اجتماعي

لا يُختلف في أنّ المجتمع الافتراضي (Virtual community)، أصبح بمثابة الوجه الثاني للمجتمع الطبيعي، وأنّ المعاملات الرقمية أصبحت تتمازج عضويًا مع المعاملات المجتمعية الطبيعية، سواء في التواصل الاجتماعي بشتى مظاهره، أو ممارسات الأفراد لأعمالهم وأنشطتهم اليومية؛ فهي جميعًا عبارة عن تفاعلات متبادلة، مقادة بتكنولوجيا الحاسوب المادية والعقلية، عتادًا وبرمجيات ومعلومات، والمعرفة التقنية المحوسبة التي تغلغلت في أنسجتنا البشرية الاجتماعية والثقافية.. وأرست دعائم منظومة بنيوية، مترابطة، في الاقتصاد والتجارة والصناعة والخدمات بأنواعها، فضلًا عن العلوم والبحوث والدراسات والإنتاج الإبداعي، في مختلف المجالات.

لماذا نراهن على الإنترنت في نهضتنا البديلة؟ (1/3)
تطورات الواقع التكنو-اجتماعي

إنه لعالم مصنَّع، مقنَّع، متركّب بعناصر وآليات غير متجانسة في أصلها، ولكن أمكن للتطور التكنولوجي أن يصلها بعضها ببعض، ويفرز منها غرائبية المشاهد المتحدة في حركة الحياة بهذه الصورة الحالية العجيبة. لدرجة يصعب فيها كثيرًا الفصلُ بين الواقع والخيال!.. فقد أضحى لدينا ما يمكن نعته بالمفارقات أو الأضداد المتماهية؛ فالواقع الملموس افتراضي محسوس.. والذكاء الإنساني اصطناعي إلكتروني.. والمعرفة مميكنة.. والإنسان منمذج برمجيًا.. والنظام الاجتماعي برمته أصبح مثله مثل نظام الحاسوب، يتنمذج ويُبرمج تمامًا كما هو الحال في منهجيات هندسة البرمجيات ونمذجة الأنظمة (System modelling).

من السهل الآن، في مختبرات تكنولوجيا المعلومات والمعرفة المتقدّمة، تقديم تخيّلات مصممة حاسوبيًا لتصبح برمجيات تُطبَّق عمليًا على مجتمعات بني الإنسان.. ومن السهل أيضًا، أن تتآلف المنظورات أو السيناريوهات السياسية والطروحات الأيديولوجية مع التصميمات التكنولوجية، وتُنفَّذ وفق مخططات تكتيكية وإستراتيجية، على أي مجتمع بشري كان، وسواء في حدوده الديموغرافية أو على أوسع نطاق جغرافي آخر...

موازين العالم الطبيعي أضحت موازين رقمية

كل هذه القفزات التطوّرية الهائلة في حياة الناس، ربما لم تكن في حسبان التوقع والتصوّر، كما نشهدها اليوم عيانًا، ونعيشها في حياتنا اليومية على هذا الكوكب الأرضي.. ولعله كان من المستبعد حدوثها في ظرف بضعة عقود، كما حدثت بالفعل... وقبل أيام قليلة، وتحديدًا في 30 أبريل/نيسان من هذا العام، يكون قد مر واحد وثلاثون عامًا على ظهور شبكة الويب العالمية (www) سنة 1993، التي انتشرت سريعًا في شتى أرجاء المعمورة، وتزامنت تطوراتها المختلفة مع تطورات شبكة الإنترنت بصفة عامة، حتى أصبحنا على ما أصبحنا عليه اليوم في ظاهرتنا التكنو-اجتماعية الكبرى...

مع دخول هذا العام 2024، بات هناك أكثر من 66% من سكان العالم يستخدمون الإنترنت؛ حوالى 5.35 مليار مستخدم من إجمالي السكان البالغ عددهم حوالى 8.11 مليار نسمة، منهم نسبة أكثر من 62% يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي؛ وهؤلاء يشكلون الغالبية العظمى لمستخدمي الإنترنت في العالم بنسبة 94% تقريبا (= 5.04 مليار نسمة) يتفاعلون مع "السوشيال ميديا" بصورة مستمرة.

على ذلك، فإنّ التشبيك الإلكتروني، من خلال تقنيات الإنترنت وشبكة الويب العالمية، دمج التمثلات الاجتماعية البشرية الكونية في حركة رقمية-طبيعية، تتفاعل على مدى دوران الساعة، ليل نهار، الأمر الذي يعني تمازج الأفكار والتصوّرات والاحتياجات، وانتقال التجارب والمهارات بأشكال متباينة بين المتفاعلين، بحسب الاهتمامات والتوجهات والقدرات. وهو ما يعني أنّ إمكانيات التعارف الإنساني ازدادت قوة، وتمددت، وأتاحت سهولة محاكاة المجتمعات لبعضها البعض، وتسارع التماثل الحضاري فيما بينها.. ولكن، تظل ملامح الصورة الحضارية الأرقى تخص المجتمعات الأكثر وعيًا، والأقوى معرفة، ومن ثم فهي أقدر تقنيًا، وأعظم تأثيرًا في المجتمعات الأخرى.

المستخدمون العرب للإنترنت سيمثلون أكثر من 95% من إجمالي السكان العرب بعد حوالى 26 عامًا

بهذا المنظور، يمكن القول إنّ موازين العالم الطبيعي، أضحت موازين رقمية.. تزن الواقع، وتمثّله، وتجسّده بصورة أكبر مما هو عليه فعلًا. فالإنسان الفرد، أصبح أكثر من مجرد شخصية مرتبطة بمكان معيّن. أصبح قابلًا للتشخص رقميًا، في أي شكل توفره التكنولوجيا المعلوماتية ونماذج المعرفة الذكية المصنّعة لدى المجتمعات الأكثر تطوّرًا. وذلك يعني أنّ التطوّر البشري مرتبط بتطوّر العالم الرقمي (الغربي)، وأمست تنبؤاته وتصوّراته المختلفة تنبثق من هذا المنطلق تحديدًا، ولا يمكن أن يُكتب النجاح لأي بحث يتعلق بالتطوّر والتغيّر الاجتماعي في أي مجتمع بشري كان دون أن يأخذ في اعتباره حركة المجتمع الرقمية، على مختلف الأصعدة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وحتى عالم السياسة هو اليوم عالم التكنولوجيا وسلطة المعرفة بالدرجة الأولى... إنّ فنّ قيادة القوة الذي تنفرد به السياسة، هو في جانبه الأكبر فن قيادة الإنترنت، والأدوات الرقمية بأنواعها.

لا شك، في ظل هذه المعطيات المذكورة، أنّ أهمية عالمنا العربي تتجلى في عالم كوكبنا الحالي. فالعرب اليوم محط أنظار العالم الرقمي في جوانب مختلفة من الثقافة والاقتصاد على وجه الخصوص.

ولنراجع بعض الإحصاءات الأساسية للتمثّلات الرقمية العربية في هذا الشأن، حتى تتضح الفكرة أو الصورة بشكل أوسع.

بحسب البيانات الصادرة عن شعبة السكان بالأمم المتحدة للسنة الماضية 2023، يمثّل العرب نسبة 5.9% من إجمالي سكان العالم (= 473 مليون نسمة تقريبًا)، ويتوقع أن يصل السكان العرب في سنة 2050 إلى حوالى 694 مليون نسمة. أي سيمثّل العرب نسبة 7.15% من إجمالي سكان العالم المتوقع (9.7 مليار نسمة تقريبًا) للعام نفسه 2050.

وبحسب بعض الإحصاءات التي أجريناها في دراسات سابقة، تبيّن أنّ نسبة استخدام الإنترنت في العالم العربي خلال الخمس سنوات الماضية ارتفعت تباعًا، حتى وصلت أخيرًا إلى حوالى 57% من إجمالي السكان العرب، وكانت نسبة الزيادة السنوية في عدد المستخدمين للإنترنت منذ سنة 2018 وحتى آخر 2023، تتراوح بين 1% إلى 2%. عليه، نتوقع أنّ المستخدمين العرب للإنترنت سيمثلون أكثر من 95% من إجمالي السكان العرب بعد حوالى 26 عامًا من الآن، أي في سنة 2050؛ وتقريبًا كل هؤلاء المستخدمين سيستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي بصورة قوية، وسيظلون يتفاعلون افتراضيًا في مختلف المجالات باستمرار.

ألا تشير هذه المعطيات الملموسة إلى أهمية خاصة للعرب في عالمهم العربي والكوني المرقمن، لا يمكن أن يغفل عنهم أصحاب التكنولوجيا المعلوماتية، وبخاصة ما يصدر عنها في الدول الغربية، وعموم العالم المتقدّم شرقًا وغربًا؛ بل إن كل هؤلاء في الواقع التكنو-اجتماعي مضطرون للاهتمام بحركة المجتمعات العربية الافتراضية، على أصعدة الأفراد والجماعات والمنظمات والشركات، والمؤسسات العامة والخاصة.

فرص ثمينة ونادرة لا يسمح لنا التطور التكنولوجي الكوكبي السريع أن نضيّع منها شيئًا كما فعلنا خلال القرنين الماضيين

يبرز الاهتمام المذكور في مختلف مجالات التمثّل الرقمي، سواء على صعيده المعنوي الفكري والذي يشمل السياسة والأيديولوجيا والاجتماع والثقافة عمومًا. أو على صعيده المادي المعيشي، بما يتضمنه من اقتصاد وتجارة واستثمار وتدفقات مالية متنوعة... وفي هذه جميعًا يتعاظم الاهتمام الكوني بعالمنا العربي، وهو الأمر الذي علينا الانتباه إليه جيدًا، حتى نعرف أهميتنا الرقمية في فضائنا الرقمي الأوسع، وإلى أين تتوجه بنا الحضارة الإلكترونية الحالية؟ وماذا يمكننا فعله بشأنها؟ وكيف يتأتى لنا كعرب، اغتنام ما تتيحه لنا من فرص النهوض والتقدم؟.

إنها الفرص الثمينة جدًا، والنادرة تاريخيًا، والتي لا يسمح لنا التطور التكنولوجي الكوكبي السريع أن نضيّع منها شيئًا، كما فعلنا خلال القرنين الماضيين...

هذا ما سنناقش بعض جوانبه بشيء من التفصيل، في المقالين التاليين.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن