لقد أدى الركود الاقتصادي والعجز المزمن عن تنويع بنية الاقتصاد العربي وتعزيز الاندماج الاقليمي، إلى تعثّر معظم السياسيات التنموية وإضعاف قدرة الدول العربية على احتواء العطالة ورفع جاذبيتها وتعزيز تنافسيتها وتحديث هياكلها ومؤسساتها بما يستجيب لتطلعاتها؛ كما قلّص قدرتها على الانفتاح ومواكبة التحوّلات، خاصّة التكنولوجية التي أضحت تفرض تحديات جديدة مرتبطة أساسًا بتأهيل المنظومة الاقتصادية ومواكبة المستجدات (التجارة الإلكترونية، الخدمات الرقمية، العملات الرقمية، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، والبيانات الضخمة، إنترنت الأشياء....).
العالم العربي اختار تعطيل قدراته وإمكاناته عبر التشظي والتجزؤ عوض العمل المشترك
هي تحديات ليس بمقدور الدول العربية مواجهتها عبر الاستمرار في نهج سياسة ردود الأفعال المقتصرة على تقديم حلول مؤقتة ذات آفاق قصيرة الأجل، أو عبر العمل بشكل أحادي في زمن التكتلات الاقتصادية الكبرى، وهي تكتلات زجّت بالعالم في حقبة الحرب الاقتصادية - الرقمية المفتوحة، بعد استكمال بناء منظوماتها الرقمية والتكنولوجية المستقلة، الأمر الذي لم يُبقِ خيارًا للدول العربية في الوقت الراهن سوى الاصطفاف والاكتفاء بدور التابع والمحمي، دون أن تمتد تطلعاتها لشغل أدوار أكثر تأثيرًا على المستوى الدولي، وهو واقعٌ مؤسفٌ لا يعكس القدرات الحقيقية لعالم عربي اختار تعطيل قدراته وإمكاناته عبر التشظي والتجزؤ عوض العمل المشترك.
تجدر الإشارة إلى أنّ محاولات التأسيس لتعاون عربي حقيقي في هذا المجال مٌتعدّدة، نورد منها، تأسيس الاتحاد العربي للاقتصاد الرقمي من قبل مجلس الوحدة الاقتصادية العربية التابع لجامعة الدول العربية في أبريل/نيسان 2018، الذي أثمر وضع أسُس الرؤية العربية للاقتصاد الرقمي، غير أنّ غياب الإرادة السياسية، واتساع الفجوة الرقمية والاقتصادية بين الدول العربية وضعف القطاع الخاص وافتقاد بعض هذه الدول لاستراتيجيات حقيقية للاندماج في الاقتصاد الرقمي، جعل من الصعب تفعيل هذه الرؤية وتنزيلها تنزيلًا سليمًا.
لقد كرّس هذا الوضع التبعية الرقمية للدول العربية، وأفقدها السيادة في مجال حيوي آخر، وذلك بعد أن فقدتها في المجال الغذائي والصناعي وقطاعات أخرى، وهو وضعٌ يكتنف في طياته مخاطر جمّة ناجمة عن حتمية الاصطفاف خلف هذا التكتل أو ذلك، وخوض معارك وحروب اقتصادية لا ناقة لها فيها ولا جمل، وجعل بياناتها الضخمة في متناول هذه القوى تعبث بها وتوظفها كيف تشاء، وهو أمرٌ سيكون له لا محالة أثر مباشر على الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، كما أنّه قد يشكل تحديًّا حقيقيًا على مستوى السيادة السياسية واستقلالية القرار.
إنّ مسألة التجاوز الرقمي واتساع الفجوة التكنولوجية بين العالم العربي والدول الرائدة في هذا المجال، أدت إلى تفويت فرص حقيقية لخلق التنمية وتجنيب المنطقة الآثار السلبية المرتقبة لتأثير الثورة الرقمية على أنماط العمل الكلاسيكية، الأمر الذي قد يفاقم الأعطاب الاقتصادية والاجتماعية لدى عدد من الدول العربية، خاصّة تلك المرتبطة بطرائق العمل وفرص الشغل، وهي المخاوف التي سبق وأن أكدتها مديرة صندوق النقد الدولي كريستينا جورجيفا حين وصفت ما يحدث حاليًا بموجة تسونامي تضرب سوق العمل، وهي موجة ستتسبب حتمًا في إغراق الدول العربية بعدد كبير من العاطلين، مما سيفاقم حجم المعضلات الاجتماعية بالشكل الذي يجعل من الصعب التكهن بمآلاتها.
تشكيل تكتل اقتصادي مندمج سيكون أداة فعالة لإعادة تموقع العالم العربي على الخريطة الاقتصادية العالمية
لقد بات وضع التجاوز يُحتّم علينا البحث عن حلول عاجلة لتدارك الأمر، حتى لا نفوت فرصة تاريخية قد تمكننا هذه المرة من اللحاق بالركب، وتخفف من الفاتورة الاقتصادية والاجتماعية التي تدفعها المنطقة العربية جراء تراخيها عن مواكبة التحوّلات، كما سبق وأن حدث خلال الثورات الصناعية والاقتصادية والتكنولوجية التي شهدها العالم خلال القرنين الماضيين.
وإن كان عذر التجاوز في الماضي قد أمسى مقبولًا لدينا، بالنظر لما تراكم من أسباب الفشل طيلة قرون، فاليوم ليس لدينا من عذر سوى غياب الإرادة السياسية، فرؤوس الأموال متوفرة لدى بعض الدول العربية، والموارد البشرية يمكن تسريع عملية تأهيلها، والبُنى التحتية قابلة للتطوير والتحديث، وهي عوامل إن تم صهرها في بوثقة العمل المشترك قد تؤدي خلال عقد من الزمن إلى تسريع عملية اللحاق بالركب التكنولوجي وتحقيق الاندماج في الاقتصاد الرقمي العالمي، والتحوّل من منطق الاستهلاك إلى منطق الإنتاج والتطوير، الأمر الذي سيكون محفزًا لخلق تنمية مستدامة وتشكيل تكتل اقتصادي مندمج، سيكون أداة فعالة لإعادة تموقع العالم العربي على الخريطة الاقتصادية العالمية.
(خاص "عروبة 22")