اقتصاد ومال

منتديات تقاسم العالم

في الوقت الذي تشهد فيه المناطق الحيوية في العالم حروبًا وصراعات وانقلابات ومناوشات برية وبحرية وأحداث عنف، لم تتوقف منتديات الكبار عن الالتئام في مواعيدها السنوية المقررة لتبحث في كيفية تعظيم مصالحها في ضوء تحوّل جذري طال طبيعة التنافس بين هؤلاء الكبار.

منتديات تقاسم العالم

تأتي اجتماعات منتديات الكبار لا ليعمل المشاركون الفاعلون فيها على إقرار السلام في النزاعات المتنوعة المشتعلة، في المناطق الحيوية المختلفة، وإنما للبحث عن كيفية استثمار تلك النزاعات بما يحقق مصالح أعضاء كل منتدى فيما يمكن أن نطلق عليه تقاسم العالم جيوسياسيًا.

فلقد صارت تلك المنتديات منصات للقاء القادة، والاقتصاديين، والساسة، والباحثين، ورجال الأعمال، والاستخباراتيين، والناشطين الاجتماعيين،...،إلخ، حيث ترعاها الشركات العملاقة العابرة للحدود، لمناقشة ما آلت إليه الأوضاع الدولية اقتصاديًا وسياسيًا. وتنقسم هذه المنتديات إلى نوعين: الأول يضم القوى العظمى الغربية التاريخية: الأمريكية والأوروبية إضافة إلى عدد من القوى التي انحازت تاريخيًا للحلف الغربي/الأطلسي كاليابان وكوريا الجنوبية، ومعها عدد آخر من القوى المتوسطة والضعيفة. ويعبّر عن هذا النوع من المنتديات "منتدى دافوس". أما النوع الثاني فيضم القوى العظمى الصاعدة مثل الصين وروسيا والعديد من الدول ذات الأسواق الناشئة. ويعبّر عن منتديات النوع الثاني "منتدى بطرسبرج" للاقتصاد الدولي.

الصراع بين القوى الدولية لم يعد يقوم على الانقسام الأيديولوجي إنما بات ينطلق من التقاسم الجيوسياسي

وتشير المتابعة الدقيقة لفعاليات/نقاشات منتديي: دافوس، وبطرسبرج، في السنوات الأخيرة، إلى أنّ كل منتدى/معسكر - بما يضم من قوى متدرجة القوة - يعمل على التمدد الجيوسياسي. إذ إنّ القوى الأعضاء في المنتديين يجمعهما التنافس على السوق العالمي في شتى أنحاء العالم: شرق آسيا، وجنوب شرق آسيا، وجزر الهادي، وشرق أفريقيا، وشمال أفريقيا، وجنوب أفريقيا، وشرق أوروبا، وجنوب شرق أوروبا، وآسيا الوسطى والقوقاز، والشرق الأوسط، وأمريكا اللاتينية،...،إلخ.

لم يعد، إذن، التنافس/الصراع بين القوى الدولية، كما كان قائمًا وقت الحرب الباردة، يقوم على الانقسام الأيديولوجي؛ غربي: رأسمالي من جانب، وشرقي: اشتراكي من جانب آخر، حيث كل أيديولوجيا لديها رؤية نقيض للأخرى لكل من العالم والمجتمع والإنسان وقبل كل ما سبق للاقتصاد في ضوء كل من الرأسمالية والاشتراكية. وإنما بات ينطلق، بالأساس، من التقاسم الجيوسياسي تحت مظلة النيوليبرالية أحد أسوأ تجليات الرأسمالية تاريخيًا.

الخلاف بين المعسكرين/المنتديين حسبما تعكس نقاشات "منتدى دافوس" من جهة و"منتدى بطرسبرج" من جهة أخرى، هو أنّ المنتدى الأول الغربي الأطلسي القديم؛ يعمل على ممارسة نوع من النقد الذاتي للنيوليبرالية في محاولة لكبح جماحها. بينما الثاني الشرقي الجديد؛ يجتهد في طرح بعض المفاهيم والتوجهات الراديكالية التي من شأنها أن تتيح التمدد الجيوسياسي للقوى الدولية البازغة ولدول الأسواق الناشئة وتشكيل مراكز نمو جديدة في عالم اليوم.

في هذا الإطار، تؤكد نقاشات اجتماعات: "دافوس" و"بطرسبرج" في السنتين الأخيرتين كيف أنّ أعضاء "دافوس" الذين يمثّلون مصالح القوى التاريخية يحاولون إعمال بعض الإصلاحات على النظام الاقتصادي العالمي النيوليبرالي التوجه منذ 45 سنة من خلال رفع شعار: "إعادة بناء الثقة" (شعار "دافوس 2024")، وذلك بممارسة قدر من النقد الذاتي على السياسات الاقتصادية للنيوليبرالية التي أدت، ليس فقط، إلى إلحاق الضرر بالفقراء والطبقات الوسطى بشرائحها، وإنما لأنها قد طالت بالأضرار جانبًا من طبقة الأغنياء، ما دفع "دافوس 2023" إلى رفع الشعار التحذيري، التالي، حول خطورة: "البقاء للأغنى/الأكثر غنى".

وتأتي هذه الإصلاحات دون حديث حول أي تغييرات لقواعد النظام العالمي. على الجانب الآخر، نجد "منتدى بطرسبرج" يدفع نحو التأكيد على ضرورة الاعتراف بأنّ هناك قوى عالمية جديدة تسعى لأن تجد لها موضعًا في صدارة المسرح العالمي ومن ثم ضرورة القبول بتأسيس جديد "لعالم متعدد الأقطاب" من خلال "تشكيل مراكز نمو جديدة" (شعار "بطرسبرج 2024") عبر التمدد الجيوسياسي. على أن يتحقق ذلك بواسطة "عالم أكثر عدلًا تتحقق فيه السيادتان التكنولوجية والتنموية" للقوى الدولية الجديدة الصاعدة، والأسواق الناشئة، والشركات المتوسطة والصغيرة.

باتت المنتديات الغربية الأطلسية القديمة والشرقية الجديدة "مطابخ" لكيفية إدارة الصراع في العالم

إنّ مراجعة حصاد هذه المنتديات يُمكّن من كشف ما تخفيه الاستراتيجيات الكبرى والسياسات الحكومية للدول فيما يتعلق بثلاثة أمور:

أولها: التعاقدات الاقتصادية والتجارية والعسكرية والطاقوية وحجم كل منها.

ثانيها: مسارات التمدد الجيوسياسية التي سوف تطرقها الدول المختلفة في كل من المعسكرين/المنتديين: الغربي القديم والشرقي الجديد؛ أخذًا في الاعتبار أنّ هناك دولًا، بخاصة تلك التي تملك احتياطيات نفطية وغازية ومعدنية، تكون فاعلة - دون غضاضة - في كل من المعسكرين. (ويشير إليها دليل أكسفورد للاقتصاد الامبريالي؛ بالدول الإمبريالية الفرعية Sub - Imperialism، 2022).

ثالثها: المفاهيم والسياسات التي تُطرح في المنتديات ويتم تبنيها من الحكومات المختلفة...

الخلاصة، لقد باتت المنتديات: الغربية الأطلسية القديمة، والشرقية الجديدة، "مطابخ" لكيفية إدارة التنافس/الصراع في العالم. حيث "تُنازع" الأولى من أجل الحفاظ على مكانتها وهيمنتها على المناطق الحيوية خصوصًا التي فقدتها زمن ترامب. وذلك مقابل القوى الشرقية الجديدة التي "تصارع" من أجل التأسيس للنظام الدولي. وذلك برعاية الشركات العابرة للجنسيات و"الكرتلات" الكبرى تحت مظلة الليبرالية الجديدة المُحسنة والمُصوبة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن