بصمات

عقلية "الشيخ والمريد" في الحقل البحثي العربي من الإسلاميات إلى الإنسانيات

تروم هذه المقالة تسليط الضوء على إحدى أسباب تراجع الكد البحثي في المنطقة العربية، وهدفنا بالتالي إثارة انتباه من لهم غيرة حقيقية على الحقل البحثي في المنطقة العربية، سواء كانوا في دائرة صناعة القرار أو في المؤسّسات الجامعية والمراكز البحثية، أو كانوا أفرادًا يشتغلون بشكل عصامي، بعيدًا عن الانتماء لتنظيمات ومؤسّسات، أو الولاء لهذه الجهة أو تلك، ويتعلّق الأمر بظاهرة توزيع الألقاب العلمية في المنصات الرقمية من قبيل مواقع التواصل الاجتماعي وفي المؤسّسات الجامعية، واختلاط الأوراق على الجميع، سواء تعلق الأمر بالطلبة الباحثين أو الرأي العام، أو مجمل المعنيين بمقتضيات وتبعات الرأسمال الرمزي المرتبط بهذه الألقاب.

عقلية

ليس موضوعنا هنا خلفية وأسباب توزيع الألقاب، فقد تكون الخلفية صادقة، من باب المحبّة أو الإيمان بخطاب ما والحق في ترويجه وتبجيل صاحبه، كما قد تكون بسبب مقتضى الانتماء لتيار إيديولوجي ما، أو من أجل قضاء أغراض مصلحية ذاتية، لا علاقة لها بعلم أو معرفة أو رأسمال رمزي، وأسباب أخرى، هذا موضوع آخر ولا يهمّنا الخوض في تفاصيله وتعقيداته.

ما يهمّنا أكثر، التنبيه إلى بعض تبعات الظاهرة على التأليف البحثي في المنطقة العربية، كمًّا ونوعًا، ومن باب التدقيق والاقتراب أكثر من تسمية الأمور بمسمّياتها، نتوقف عند مثال تطبيقي، نعاين تبعاته جليًا في الساحة.

العمل البحثي له قواعد علمية متعارف عليها عالميًا ولا تحتمل المجاملة والإفراط في توزيع الألقاب

يتعلق الأمر بطبيعة الألقاب المتداولة في مجال الإسلاميات، أو قُل في مجال الحقل الديني أو الدراسات الإسلامية، والتي بمقتضى الهالة المرتبطة بالخطاب الديني، غالبًا ما تدور في فلك التعظيم، وإذا كان بعض الألقاب المتداولة تراثيًا، تحظى بما يشبه القبول أو التأييد، من قبيل "حجة الإسلام" مع أبي حامد الغزالي، أو "سلطان العاشقين" مع ابن الفارض أو "شيخ الإسلام" مع تقي الدين السبكي عند الصوفية أو ابن تيمية عند السلفية، فالأمر مختلف كليًا اليوم مع مضامين أدبيات أسماء الساحة، من فرط تراجع التأليف النوعي وولوج حقبة الشروح وشرح الشروح، إلّا إن تعلّق الأمر بحالات علمية إسلامية متميّزة، وتحظى بما يشبه الإجماع على هذا التميّز، وهذا أمرٌ نادرٌ كما هو معلوم، وكانت أحداث 2011 في المنطقة، مناسبة جديدة لتذكيرنا بذلك.

ليس هذا وحسب، وإذا افترضنا أنّ مثل هذه الألقاب متداولة في الأوساط الإسلامية، من قبيل الطرق الصوفية والحركات الإسلامية، فهذا شأنها في نهاية المطاف، أي تفعيل قاعدة "الشيخ والمريد" في المجال التربوي والوعظي، ما دامت الأمور تهم مجالس دينية خاصة، ولا تخرج إلى العلن، لكن الأمر يصبح مغايرًا كليًّا عندما ننتقل إلى المجال البحثي، سواءٌ مع أهل الإسلاميات أنفسهم، أي الأسماء البحثية القادمة من هذه التيارات الدينية، أو مع أهل الإنسانيات، أي الأقلام البحثية التي تشغل في الفلسفة والعلوم الإنسانية، وبيان ذلك مرتبط بعدة اعتبارات، ونتوقف عند اثنين منها على الأقل:

- الأول، أنّ العمل البحثي له قواعد علمية متعارف عليها عالميًا، ولا تحتمل المجاملة والإفراط في توزيع الألقاب، وليس صدفة أن نعاين تواضعًا في هذه الجزئية، هناك في الساحة الأوروبية على سبيل المثال، مقارنة مع فورتها في المنطقة العربية، ونزعم أنّ أحد أسباب ذلك، مردّه التغطية على تواضع الإنتاج البحثي في حقل الإنسانيات على الخصوص، مقارنة مع السائدة في باقي الحقول البحثية العالمية، حيث تتضح الفوارق الكبيرة بين الإنتاج البحثي العربي ونظيره الغربي، وتكفي نظرة عابرة على حضور الجامعات العربية في أغلب التصنيفات التي تصدر بين الفينة والأخرى حول الموضوع، لكي يتأكد المتتبع من هول تلك الفوارق.

قاعدة "الشيخ والمريد" تقوّض الانتصار للهمّ النقدي الذي يروم تقييم وتقويم الإنتاج البحثي

- أما الاعتبار الثاني، فيُفيد أنّ قاعدة "الشيخ والمريد"، يمكن القبول بها في تلك الجلسات الدعوية والتربوية التي تهم التيارات الدينية، الصوفية والإسلامية الحركية وغيرها، وإضافة إلى أنها لا تنفع قط في الحرم الجامعي، فإنها تقوّض الانتصار للهمّ النقدي الذي يروم تقييم وتقويم الإنتاج البحثي، وبالرغم من ذلك، نعاين انتقال القاعدة نفسها إلى الحرم نفسه، كما هو السائد في ما تعج به المناقشات العلمية الخاصة بالرسائل الجامعية أو خطاب المجاملة السائد بين هذه الأسماء في المنصات الرقمية، سواء مع أقلام الإسلاميات أو الإنسانيات.

في الإنتاج البحثي الخاص بالحقل الفلسفي على سبيل المثال، مَن يعاين مضامين السائد من ألقاب توزّع هنا وهناك على بعض الأسماء، قد يعتقد أنّ الساحة العربية تعج بالفلاسفة، من هول الميوعة التي وصلنا إليها، والتي تؤسّس لسيولة في الألقاب، لكنها لا تحجب واقعًا لا يرتفع، مفاده التواضع البحثي، في الكم والنوع، سواء في الحقل الفلسفي أو في حقول أخرى.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن