يبدو نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي هنا وكأنه يسعى للتخلص مما تبقى من شعارات دولة ثورة يوليو/تموز 1952 وثورة يناير/كانون الثاني 2011، بالقضاء على مطلب العدالة الاجتماعية قضاءً مبرمًا، وهو شعار حاضر في الحدثين، في وقت يتم اعتماد سياسات تنحاز صراحة لطبقة رجال الأعمال والأغنياء على حساب إفقار ممنهج للغالبية العظمى للشعب المصري.
رفعت ثورة 1952؛ أو نظام الزعيم جمال عبد الناصر إذا شئنا الدقة، مجموعة من المبادئ الأساسية، أهمها "إقامة عدالة اجتماعية"، بالتوازي مع "القضاء على الإقطاع"، لذا سعى النظام في الخمسينيات والستينيات إلى معالجة هذا الأمر عبر التوسّع في القطاع العام والتصنيع، ومحاولة الوصول للاكتفاء الذاتي، وإصدار قوانين الإصلاح الزراعي، وتنفيذ مجانية التعليم، وإصدار قانون التأمينات الاجتماعية، واعتماد الإسكان الاجتماعي.
النظام المصري يعمل على تصفية شعارات ثورتَـي يوليو ويناير ويستأنف سياسات النظام الساداتي/المباركي
لكن الانحراف الساداتي عن التجربة الناصرية في السبعينيات أسّس لنظام جديد، يقلّص من بُعد العدالة الاجتماعية، مع الانحياز الصريح والوقح للطبقات الأغنى وشبكات المصالح، في ظل فساد حكومي وانفتاح اقتصادي تبنى قيم الرأسمالية بلا أي ضوابط، على وقع تصفية قطاع التصنيع وتخلي الدولة عن أدوارها الاجتماعية. الأمر الذي استمر في عصر حسني مبارك، الذي قامت سياساته على الاحتفاظ الشكلي بالخطابات الناصرية، مع تبني فعلي لكل سياسات السادات المعادية لغالبية المصريين.
لذا جاءت ثورة يناير/كانون الثاني 2011، كمحاولة من الطبقة الوسطى لوقف انحراف حكومي استمر على مدار أربعة عقود تقريبًا، ورفع الثوار شعار "عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية"، كاستعادة حقيقية للمشروع الناصري في جانبه الاجتماعي، خصوصًا أنّ الثورة جاءت في ظل اعتماد نظام مبارك في نسخة ولده جمال مبارك، على قيم النيوليبرالية الجديدة، التي تعتمد محاباة رجال الأعمال على حساب مصالح المصريين، الذين عاشوا فترة من تصفية شركات القطاع العام والمصانع التي بُنيت في عصر ناصر.
الحاصل الآن أنّ النظام المصري في 2024 يعمل على تصفية شعارات ثورتَـي يوليو ويناير معًا، ويستأنف سياسات النظام الساداتي/المباركي، فما يحدث خلال السنوات الماضية غير مسبوق في تجاهله لحقوق ملايين المصريين في الحياة الكريمة، فخلال عشر سنوات تم خفض قيمة الجنيه المصري أكثر من مرّة، فرفع معدل التضخم بشكل قياسي، فالدولار الذي كان يساوي 8.8 جنيهات في 2016، بات اليوم يساوي 47 جنيهًا تقريبًا.
الأمر الذي أدى إلى تآكل مدخرات المصريين، وعدم قدرة الكثير من الأُسر على الاستمرار في المستوى الاجتماعي نفسه بسبب انفلات الأسعار، فمعدل الفقر في مصر، بحسب البنك الدولي، ارتفع من 29.7 بالمئة للعام المالي 2019/ 2020، إلى 32.5 بالمئة للعام 2022، وهو بلا شك ارتفع في السنتين الأخيرتين مع مواصلة الحكومة قراراتها الاقتصادية المنحازة ضد الأقل دخلًا.
الانحياز الحكومي لرجال الأعمال والمستثمرين واضح في العديد من القرارات، مثلًا صدر قانون الضريبة على الأرباح الرأسمالية في البورصة المصرية 2014، لكن على مدار عشر سنوات لم تنفذه الحكومة استجابةً لرغبة المستثمرين، في المقابل تسارع حكومة القاهرة في إصدار قرارات الحد من تدخل الدولة في الاقتصاد وحذف بند العدالة الاجتماعية، لذا لم يكن غريبًا أن تتخلى عن أي معايير للجودة التعليمية مع تحول مجانية التعليم إلى مجرد شعار بلا مضمون، مع تردي التعليم المجاني والتوسّع في التعليم الخاص.
ما يجري حاليًا يشكل تأسيسًا لهوية نظام يرفع شعار الانحياز للمستثمرين والاستجابة غير المشروطة لصندوق النقد
كذلك صدر قانون حكومي وافق عليه برلمان الموالاة الشهر الماضي، يسمح بتأجير المستشفيات الحكومية للمستثمرين، الأمر الذي رفضته نقابة الأطباء المصرية، وشددت في بيان لها على أنّ القانون "لا يحمل أي ضمانات لاستمرار تقديم الخدمة للمواطنين المصريين خاصة محدودي الدخل"، كما يتيح القانون للمستثمر أن يستغني عن 75 بالمئة من العاملين في المنشأة الصحية، ومعظمهم من محدودي الدخل.
ولم يكن قرار رفع سعر الخبز المدعم 400 بالمئة، إلا حلقة من حلقات تصفية مبدأ العدالة الاجتماعية الذي رفعه نظام يوليو وجددته ثورة يناير، فما يجري حاليًا هو تصفية متعمّدة وصريحة لمشروع العدالة الاجتماعية، بل يشكل تأسيسًا جديدًا لهوية نظام يرفع شعار الانحياز للمستثمرين، والاستجابة غير المشروطة لصندوق النقد الدولي، والأفكار الرأسمالية التي لا يهمها إلا تركيز الثروة والسلطة في شريحة قليلة على حساب الأغلبية المطحونة، مجتمع تتسع فيه الفوارق الطبقية بقسوة وتُنحر فيه العدالة الاجتماعية بلا رحمة، الأمر الذي يبشّر بانفجار حرب طبقية في مصر.
(خاص "عروبة 22")