ولكن يبدو أبناء المنطقة أقل قدرة على التكيّف من أجدادهم مع أزمة المياه الحالية التي تحدث جراء زيادة السكان وأطماع دول الجوار والتغيّر المناخي الذي خلقه الإنسان هذه المرة.
بل تبدو ممارسات الري الشائعة مسؤولة جزئيًا عن تفاقم أزمة المياه بالعالم العربي الذي يُعد أكثر مناطق الأرض جفافًا، وندرة في المياه، وصاحب أكبر فجوة غذائية في العالم.
فمن بين أكثر من 17 دولة تعاني من نقص المياه في العالم، 11 منها بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتضم المنطقة نحو 6.3% من سكان العالم، بينما تحتوي على 1.4% فقط من المياه العذبة المتجددة في العالم.
طرق الريّ بالمنطقة تستنزف كميات كبيرة من المياه الشحيحة
إضافة للتحديات المناخية، فإنّ الأنهار الرئيسية بالعالم العربي تنبع من خارجه، وتعمل دول المنبع بدرجات متفاوتة على تقليل الكميات المتاحة لدول المصب العربية، وحتى المياه الجوفية التي تعد مصدرًا مهمًا بالمنطقة، تتعرّض لاستنزاف كبير، كما يؤدي ارتفاع سطح البحر لتسرب المياه المالحة لطبقات المياه الجوفية قرب السواحل.
ومع تراجع الأمطار وزيادة درجات الحرارة وبالتالي ارتفاع معدل التبخير، فمن المتوقع أن تتفاقم ندرة المياه بالمنطقة، في ظل معدلات استهلاك الفرد للمياه هي من الأدنى في العالم، في المقابل ترتفع الحاجة للمياه مع زيادة عدد السكان بالمنطقة حيث يسجّل بعض البلدان العربية معدلات تُعد من الأعلى عالميًا.
وخلص تقرير للبنك الدولي إلى أنّ ندرة المياه المرتبطة بالمناخ قد تؤدي لخسائر اقتصادية تصل إلى 14% من إجمالي الناتج المحلي للمنطقة خلال السنوات الثلاثين القادمة.
وبينما توفر تحلية مياه البحر نافذة لتقليل الأزمة، فإنّ هذا ينطبق بالأكثر على دول الخليج أو دول مثل ليبيا والجزائر، ولكن لا يمكن أن تمثّل حلًا شافيًا لبقية المنطقة وخاصة بالنسبة لمياه الري والتي يجب أن تكون زهيدة التكلفة.
وجزء كبير من الحل يكمن في طرق الري بالمنطقة والتي تستنزف كميات كبيرة من المياه الشحيحة أصلًا.
في الواقع، فإنّ الإفراط في مياه الري ليس مجرد إسراف؛ بل يمكن أن يؤدي لانخفاض جودة المحاصيل وكمياتها نتيجة تملح وتآكل التربة.
وتشير التقديرات إلى أنّ كفاءة معظم أنظمة الري بالعالم العربي تبلغ نحو 45% فقط بسبب الهدر الضخم بشبكات إمدادات المياه وطرق الري.
ويبلغ فاقد المياه في قطاع الري 89.2 كيلومتر مكعب/سنة بالمنطقة، وهو ما يغطي بشكل شبه كامل العجز المائي المتوقع في عام 2050، حسب دراسة نُشرت قبل سنوات للخبير بمجال الري عاطف حمدي من معهد البحر الأبيض المتوسط الزراعي في باري بإيطاليا.
وأظهرت دراسات، أنّ الري بالتنقيط على سبيل المثال، يخفض استخدام المياه بنسب تتراوح بين 30 إلى 70%، وتصل بعد التقديرات إلى 90%، ويزيد من إنتاجية المحاصيل بنسبة تتراوح بين 20 إلى 90%، مقارنة بنظم الري التقليدية، إضافة لتقليل استهلاك الأسمدة والمبيدات، ويُعتقد أنّ الري بالرش مماثل في الكفاءة (نحو 85%)، وأقل في مشكلاته من الري بالتنقيط.
وأفادت وزارة الزراعة المصرية بأنّ الري بالرش مناسب للأراضي الصحراوية، التي تفقد المياه بسرعة، وكذلك الأراضي القديمة بالدلتا والصعيد، وأقل حاجة للعمالة، كما لا يحتاج لإنشاء قنوات بين الزراعات.
وسيساهم تحسين كفاءة الري مع إدخال تعديلات التربة العضوية من خلال منهج متكامل إلى معالجة ولو جزئية لأزمات المياه، وبالتالي تقليص الفجوة الغذائية بالمنطقة.
ومن الحلول المهمة ولكن الحساسة، معالجة المياه العادمة، ولكن هذا يتطلب أطرًا قانونية وتنظيمية ملائمة ورقابة صارمة وإقناع الرأي العام بسلامة هذا المسار، وضرورة فهم المزارعين للممارسات الأمنة للتعامل مع المياه.
يجب الاستفادة من منطقة التجارة العربية الحرة لبناء صناعة وتجارة عربية بينية في مجال معدات الريّ الحديثة
تحتاج المنطقة لثورة بمجال الري، وهي ثورة يجب أن تقودها الحكومات عبر التوسع بالبحث العلمي وتقديم قروض ومنح وتدريب للمزارعين لدفعهم لتغيير أساليب الري، كما تحتاج لمشاركة مجتمعية وألا تكون عبر الأوامر الفوقية دون معرفة رجع الصدى من المزارعين عن طريق الروابط والنقابات والجماعات الفلاحية الصغيرة، وإلا لن يتم معرفة المشاكل على الأرض، وقد تتحول عملية التحول إلى كارثة.
ويمكن أن يكون هناك تعاون بين الدول العربية بأبحاث الري والزراعة في ظل تشابه ظروفها، كما يجب الاستفادة من منطقة التجارة العربية الحرة لبناء صناعة وتجارة عربية بينية في مجال معدات الري الحديثة بدلًا من استيرادها، لخفض التكلفة وخلق قيمة مضافة محلية.
لقد نشأت أولى حضارات العالم بمنطقتنا كاستجابة من سكانها الأقدمين لكارثة الجفاف، واليوم فإنّ موجة الجفاف الحالية، التي قد يتزامن معها تراجع محتمل للبترودولار وإغلاق أبواب الهجرة للغرب، يجب أن تجابه بثورة بمجال الري، لمنع انحدار المنطقة لكارثة كبرى.
(خاص "عروبة 22")