حدث ما لم يكن مُستبعدًا. لأكثر من أربعة أشهر حوصرت "الفاشر"، عُزلت تمامًا عن العالم، ومُنعت عنها أي إمدادات إنسانية طبّية وغذائية، من دون أن يتحرّك أحد لإنقاذها من المصير المُحتّم، إذا ما اقتحمتها قوات "الدعم السريع" بكلّ ما هو منسوب إليها من جرائم حرب.
فجأةً، انسحبت قوات الجيش والقوات المتحالفة، وتُرك أهل "الفاشر" لمصيرهم المأساوي. المفارقة الكبرى أنّ مقاتلي "الدعم السريع"، الذين أمعنوا في التقتيل، تولّوا بأنفسهم توثيق الجرائم التي ارتُكبت وبثّها على أوسع نطاق من دون اكتراثٍ بما يترتّب عليها من عواقب وتداعيات وردود فعلٍ إنسانيةٍ غاضبة.
سقوط "الفاشر" يُمثّل تطوّرًا خطيرًا في حسابات الحرب السودانية ويُهدّد مصر في صميم أمنها القومي
كان ذلك تعبيرًا عن سعيٍ مقصودٍ لترهيب وتخويف مناطق حيوية أخرى يستعدّون للانقضاض عليها حتى يكون سقوطها في متناول بنادقهم.
تكفّلت صور الأقمار الاصطناعية في كشف حجم المجازر ومدى بشاعتها، "برك دماء وجثث مكدّسة".
من ناحيةٍ استراتيجيةٍ، يُمثّل سقوط "الفاشر" تطوّرًا خطيرًا في حسابات الحرب السودانية الداخلية يُضفي قوةً مُضافةً لـ"الدعم السريع" بتدفّقات السلاح والمقاتلين والمرتزقة عبر الحدود مع تشاد وليبيا.
هو تطوّر يُهدّد مصر في صميم أمنها القومي.
ومن ناحيةٍ اقتصاديةٍ، فإنّه يُضفي قوةً مُضافةً أخرى إلى مصادر التمويل الخارجي، فالإقليم غني بموارده النفطية وثرواته المعدنية... والصراع عليه يعود إلى تلك الموارد قبل أي اعتبارٍ آخر.
إذا ما جرت ملاحقة "الدعم السريع" أمام "المحكمة الجنائية الدولية"، واستصدار مذكّرة توقيف بحقّ قائدها محمد حمدان دقلو الشهير بـ"حميدتي"... وهو احتمال ماثل بقوة، فما الذي يترتّب عليه؟
الملاحقة الدولية المُحتملة تُخرجه على الفور من حسابات المستقبل السياسي للسودان.
لتجنّب ذلك السيناريو، اعترف "حميدتي" بالانتهاكات المروّعة، التي ارتكبتها قواته، مُتبرّئًا من مسؤوليتها.
ونسبها إلى أحد رجاله المقربين "أبو لولو"، الذي وُصف بـ"جزّار القرن"، كأنّه كبش فداء للإفلات من الحساب.
في ذاكرة السودان المُعاصِرة مذكّرة التوقيف، التي أصدرتها "الجنائية الدولية"، في مارس/آذار 2009، بحقّ الرئيس السابق عمر البشير على خلفيّة انتهاكات مروّعة ارتُكبت في الإقليم نفسه "دارفور".
بدعمٍ سياسيّ من دول أفريقية عديدة أفلت "البشير" من المحاكمة الدولية.
وُفّرت له حرية الحركة والتنقّل من دون خشية اعتقال.
ثم بدعم وحماية رجاله السابقين بعد إطاحته من الحكم.
لا يتمتّع "حميدتي" بأي دعمٍ مقارب.
لا أحد في العالم مستعدّ أن يتحمّل مسؤولية ما جرى في "الفاشر".
إنّها معضلة قد تُنهي حياته السياسية في لحظة حربٍ تصوّر أنّه على وشك حسمها.
المُثير للالتفات أنّ الرجلَيْن المتحاربَيْن - قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، و"حميدتي" قائد "الدعم السريع" - يُدينان بصعودهما إلى "البشير"، الذي صعد بالأول إلى أعلى المراتب العسكرية، ومكّن الثاني من تأسيس ميليشيا "الجنجويد"، التي تحوّلت تاليًا إلى "الدعم السريع" لمقتضيات الحرب في دارفور وأطلق عليه تدلّلًا "حمايتي"!.
تشاركا في إطاحة "البشير"، وأطاحا معًا بالحكومة المدنية، التي ترأسها عبد الله حمدوك، واقتربا من إسرائيل كلّ على طريقته.
الفارق الجوهري بينهما أنّ "البرهان" يستند إلى شرعية الجيش فيما خصمه بلا أي شرعية.
"البرهان" سوف يسعى بكلّ الطرق الممكنة لوضع "حميدتي" رهن الاعتقال الدولي متهَمًا بأبشع جرائم الحرب من تطهير عِرقي وإعدامات ميدانية واغتصاب نساء ومطاردة النازحين تقتيلًا وإذلالًا، حسب التقارير الدولية المتواترة.
الأرجح أن يتكرّر السيناريو الليبي بين شرق وغرب
هل هناك فرصة ما لحلٍّ سلميّ يوقف نزيف الدم ويمنع تقسيمًا جديدًا للبلاد؟
هذا سؤال ملغّم، أفقه مسدود بالكراهيات والمصالح المتناقضة.
تواتر النداءات الدولية والإقليمية لـ"هدنةٍ إنسانيةٍ واسعةٍ" لا يعني أنّها في متناول اليد بالنظر إلى غياب أي خطط عملٍ لما بعدها.
"الدعم السريع" يُرحّب بتلك النداءات أملًا في تفاوضٍ من موقع قوة، أو أن يدخل طرفًا رئيسيًا في تقرير مصير السودان.
الجيش السوداني، من جانبه، يُمانع في أي تسوية داعيًا إلى القصاص والانتقام... "إنّها لحظة صعبة لكنّها ليست النهاية"، حسب بيان أصدره مجلس السيادة، الذي يترأسه "البرهان".
إرث الكراهية والدم مع "الدعم السريع" لا يدع مجالًا كبيرًا لأي رهان على صفقة ما مع "حميدتي".
في انسداد الأفق السياسي، الأرجح أن يتكرّر السيناريو الليبي بين شرق وغرب، حكومتان مُتنازعتان، ميليشيات تتصارع وتدخّلات دولية وإقليمية تنزع عن البلد كلّه أي حيوية مفترضة وأي أمل في المستقبل.
إذا ما مرّ التقسيم فإن مصيرًا مشابهًا ينتظر دولًا عربية أخرى
الاحتمال الأسوأ، أن يُفضي ذلك إلى تقسيمٍ جديدٍ للسودان وفي الذاكرة القريبة انفصال الجنوب عن السودان إثر حربٍ أهليةٍ طويلةٍ وطاحنةٍ في 9 يوليو/تموز 2011.
المبعوث الرئاسي الأميركي إلى أفريقيا، مسعد بولس، أشار بصريح العبارة إلى التقسيم المُحتمل... ووزير الخارجية بدر عبد العاطي أعلن رفض مصر القاطع لمثل هذا السيناريو.
القضية الآن ليست أن نُدين، أو نُحذّر.
القضية الحقيقية: ما العمل؟
مصير السودان يتجاوز الحرب، التي كانت منسيّةً، إلى العرب جميعهم بلا استثناء.
إذا ما مرّ التقسيم مُجدّدًا فإن مصيرًا مشابهًا ينتظر دولًا عربيةً أخرى فيما يُطلق عليه "الشرق الأوسط الجديد"!.
(خاص "عروبة 22")

