الأمن القومي العربي

السيناريوات العسكرية والسياسية المتوقعة.. بعد "الفاشر"!

السودان - ماهر أبوجوخ

المشاركة

أعلنت "قوات الدعم السريع"، صباح الأحد 26 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، سيطرتها على مقرّ "الفرقة السادسة" في مدينة "الفاشر" عاصمة الإقليم وولاية "شمال دارفور" بعد حصارٍ ومعارك فاقت المئتَيْن خلال عامٍ ونصف، في مواجهة الجيش وحلفائه في القوات المشتركة التابعة للحركات الموقّعة على اتفاق "سلام جوبا". واعتبر بعض المراقبين "الفاشر" بالنسبة إلى "الدعم السريع" بأنّها "الثّقب الأسود للحرب"، فإذا كان علميًا يُعرف بشكلٍ مختصرٍ بأنّه "مكان في الفضاء تكون فيه الجاذبية عاليةً جدًّا، بحيث تكون قادرةً على سحب الضوء"، فإنّ "الفاشر باتت خلال الحرب منطقة جذبٍ عالٍ للكثير من قوات وطاقات "الدعم السريع" وفقد فيها الكثير من القيادات ونخبة قواتها".

السيناريوات العسكرية والسياسية المتوقعة.. بعد

يبدو عمليًا أنّ استيلاء "الدعم السريع" على الفاشر أنهى السباق المحموم بين طرفَيْ الحرب منذ أبريل/نيسان الماضي الذي كانت أبرز نتائجه تصاعُد وتيرة المواجهات بينهما في "كردفان"، فالجيش والمجموعات المتحالفة معه سعوا لمراكمة انتصارات العاصمة الخرطوم ووسط السودان بفكّ الحصار عن الفاشر. أمّا "الدعم السريع"  فعمل على تعويض تلك الخسائر بقطف ثمرة "الفاشر" والخروج من "ثقبها الأسود" الذي استنزفها عسكريًا ومعنويًا.

لا يمكن النّظر إلى نتيجة معركة الفاشر وتطوّراتها في شهورها الأخيرة من دون استصحاب مُتغيّراتٍ طرأت عليها منذ بداية هذا العام بتشكيل "الدعم السريع" تحالفًا سياسيًا ضمّ "الجيش الشعبي لتحرير السودان" صاحب الخبرة القتالية منذ العام 1986 ومجموعات دارفورية وإعلان تشكيل سلطةٍ موازيةٍ مقرّها في نيالا، وترأس المجلس الرئاسي قائد "قوات الدعم السريع" الفريق محمد حمدان دقلو "حميدتي". ومع تنامي القدرات العسكرية لـ"الدعم السريع"، أخرج سلاح الجو من سماء المعركة بإسقاط عددٍ من الطائرات كان آخرها في أبريل/نيسان هذا العام وعدم عودته إلى التحليق مجدّدًا فوق سماء المدينة، إلّا بداية شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي وهو ما بدا وكأنّه أمر تأخّر كثيرًا. وعلى الرَّغم من تنفيذ عمليتَيْ إسقاط، إلّا أنّ الأمر كان قد انتهى فعليًا يوم 26 من الشهر الماضي، بالسيطرة على رمز مقاومة الهجمات لعامٍ ونصفٍ العام المتمثل في مقرّ قيادة الفرقة السادسة، وترتّب على هذا الأمر إكمال سيطرة "الدعم السريع" على عاصمة الإقليم وكلّ عواصم الولايات الخمس في دارفور.

لجأ "الدعم السريع" منذ بداية العام الحالي إلى استخدام أساليب عسكريةٍ جديدةٍ في الفاشر، حيث شدّد الحصار على المدينة بتعميق وتوسعة الخندق المحيط بالمدينة، واستبدال الهجوم بالأمواج القتالية من الأطراف صوب المدينة لانتهاج طرقٍ قتاليةٍ مماثلةٍ لأساليب الجيوش النظامية بالتقدّم والسيطرة على النقاط مع الاستخدام الكثيف للمُسيّرات، وهو الأمر الذي مكّنه من تشديد وإحكام خناق الحصار ثم الاقتراب والإحاطة بالفرقة السادسة بعد السيطرة على المواقع العسكرية القريبة والمجاورة لها.

يسعى "الدعم السريع" لتوظيف انتصاره في الفاشر عسكريًا بالانتقال إلى مرحلة الهجوم العكسي عوضًا عن استراتيجية التصدّي وقطع الطريق وإعاقة تقدّم الجيش والمجموعات المتحالفة في إقليم كردفان، وذلك باستعادة سيطرته على بعض المناطق التي تراجع عنها خلال فترة تقهقره في مارس/آذار وأبريل/نيسان الماضيين في شمال كردفان. واستهلّ هذا التوجّه في استعادة مدينة بارا الذي تمّ بالتزامن مع سيطرته على الفاشر، وهو ما يجعل أحد أهدافه التوجّه صوب حاضرة كردفان، مدينة الأبيض التي تُعدّ مركز قيادة العمليات المتقدّم للجيش منذ أبريل/نيسان الماضي.

يمكن أن يكون الهدف الحقيقي للتحرّك صوب الأبيض تمويهًا لهدفٍ آخر في جبهات أخرى أبرزها مدينة الدلنج التي تحلّ ثالثةً من ناحية حجم الثقل العسكري للجيش في كردفان بعد كلٍّ من الأبيض وكادوقلي، حيث تكتسب أهميةً استراتيجيةً فالسيطرة عليها يجعل الطريق مفتوحًا نحو عاصمة جنوب كردفان كادوقلي، وبالتالي تعزيز سيطرة مكوّنات "تحالف تأسيس" على الحدود المشتركة مع دولة جنوب السودان وتشديد الخناق على حاميات الجيش الموجودة في كردفان، خصوصًا في أبو جُبَيْهَة.

تكتسب الدلنج وكادوقلي، إلى جانب أهميتهما الاستراتيجية والسياسية، رمزيةً معنويةً وتاريخيةً لأبرز حلفاء "الدعم السريع" في تحالف "تأسيس" ممثلَيْن بالحركة والجيش الشعبي لتحرير السودان اللذَيْنِ يقودهما الفريق عبد العزيز الحلو الذي ينوب عن حميدتي في رئاسة المجلس الرئاسي لسلطة تأسيس في نيالا، والسيطرة على أيّ منهما بخلاف نتائجه العسكرية فإنّه سيعزّز تماسك تحالف "تأسيس"  سياسيًا.

ينتج عن سيطرة "الدعم السريع" على الفاشر تعقيدًا عسكريًا قد يهدّد بنقل المعارك مُجدّدًا إلى شمال السودان، إذ ترتبط الفاشر بطريقٍ مع الدبة الواقعة على مجرى نهر النيل تُظهر تقديرات بأنّ مسافته حوالى 775 كيلومترًا، وهو طريق صحراوي غير مأهولٍ يُستخدم لنقل البضائع، وتحركّت عبره القوات المشتركة المُتمركزة في الدبة لإمداد قواتهم المحاصَرة في الفاشر. لكن تراجعت فعّاليته كثيرًا منذ بداية العام بسبب إحكام الحصار على الفاشر، ويُثير هذا المُعطى مخاوف حقيقيةً من إمكانيّة نقل الحرب مُجدّدًا إلى مناطق شمال السودان وإضافة تعقيداتٍ عسكريةٍ واقتصاديةٍ وسياسيةٍ جديدة.

على الرَّغم من النجاح العسكري لـ"الدعم السريع" بالسيطرة على الفاشر، إلّا أنّ تصرّفات وانتهاكات منسوبيه تجاه المدنيين والقتل خارج القانون بعد إعلان السيطرة وتصوير وتوثيق تلك الجرائم ونشرها، أحدث صدمةً وغضبًا محلّيًا وإقليميًا ودوليًا، ما جعل هذه الانتهاكات الخبر الأساسي عوضًا عن السيطرة على المدينة. واضطرّ "الدعم السريع" مع تزايد وتصاعد ردود الفعل والانتقادات إلى الانتقال من استراتيجية الإنكار إلى خيار الاعتراف بإعلان حميدتي في خطابٍ مصوّرٍ بُثّ مساء الأربعاء 29 أكتوبر/تشرين الأول، تشكيل لجان تحقيق لمحاكمة مُرتكبي الانتهاكات ليعلن مساء اليوم الثاني القبض على "أبو لولو" وهو أشهر شخصية قامت بتنفيذ وتصوير عمليات قتل مدنيين ووضعه في السجن توطئةً لمحاكمته!.

وعلى الرَّغم من فقدان الفاشر، فإنّ الجيش يسعى للحفاظ على جبهة حلفه متماسكةً، بخاصة القوات المشتركة التي انضمت إلى صفوفه في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، بعد سيطرة "الدعم السريع" على نيالا وشروعه في السيطرة على الفاشر التي تعدّ مناطق وجودها. ويُفاقم من التصدّعات اتهامات بعدم تفاعل الجيش والتلكّؤ والتباطؤ في التحرّك نحو كردفان ودارفور بعد إكمال السيطرة على الخرطوم وتصوير الحرب وكأنّها قد انتهت، وهو ما تعتبره القوات المشتركة السبب الأساسي الذي مكّن "الدعم السريع" من إعادة ترتيب صفوفه وامتصاص الصدمة والسيطرة على المدينة التي ظلّت صامدةً لعامٍ ونصف العام.

بخلاف الجانب العسكري، مثّلت الفاشر "كرت" ضغط تفاوضي سياسي لم يقتصر استخدامه على مواجهة "الدعم السريع"، ولكن شمل المجتمعَيْن الإقليمي والدولي بالاستناد إلى قرار مجلس الأمن (2736) الذي طالب بفكّ الحصار عن المدينة، وذلك من خلال تمسّك الجيش بتنفيذ هذا القرار كأحد شروط المباحثات والنقاشات السياسية وحتى المبادرات لوقف الحرب كموقفٍ يستند إلى تنفيذ قرارٍ صادرٍ عن مجلس الأمن لدفع "الدعم السريع" إلى فكّ الحصار عن المدينة بالطرق السياسية والديبلوماسية من دون اللجوء إلى الخيارات العسكرية، ولذلك فإنّ سيطرة "الدعم السريع" على المدينة جعلت الواقع فعليًا على الأرض تجاوزًا لهذا القرار.

على الرَّغم من ذلك، توجد وجهة نظر تنظر لنهاية معركة الفاشر من زاوية صراع الطرفَيْن عليها لعامٍ ونصف العام، وهو ما يجعلهما غير متحمّسَيْن للتقدّم أي خطوات إلى الأمام نحو الحلول السلمية، في ظلّ وجود فرصةٍ لحسم أمرها لصالحه بالمراهنة على الزمن. وحتى إذا قُدِّرَ التوصّل إلى هدنةٍ بواقعها المُعقّد والتلاحم الميداني لقوات الطرفَيْن وتمسّكهما بالاحتفاظ بمواقعهما داخلها وعدم مغادرتها، فإنّ هذا الوجود قد يمثّل القنبلة المؤقتة لتفجير الهدنة أو الاتفاق، وتعزيز عوامل فقدان الثقة والشكوك بين الطرفين.

لذلك، فإنّ وجهة النظر تلك تعتقد أنّ حسم معركة الفاشر لصالح أحد الطرفَيْن قد يساعد على الحلّ بعد طيّ ملف مصير الفاشر الذي عرقل فعليًا جهود الوصول إلى هدنةٍ بينهما، خلال المفاوضات المباشرة بين الطرفين في العاصمة الأميركية، واشنطن، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي. كما أنّ حملة الإدانات والتعاطف النّاتجة عن ردود الفعل على الانتهاكات المروّعة بشكلٍ واسعٍ، قد يمنح أزمة السودان فرصة العودة إلى دائرة الاهتمام الدولي مع ما يترتّب على ذلك من زيادة التحرّكات الإقليمية والدولية من أجل إنهاء الحرب وتحقيق سلامٍ طال انتظاره منذ منتصف أبريل/نيسان 2023.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن