أحد أوجه المفارقة في ذلك، والتي اشتغل عليها نعوم تشومسكي، الأمريكي الجنسية اليهودي الديانة، كان: ماذا عن الترويج للديمقراطية في الولايات المتحدة الأمريكية؟ بأسلوب آخر، ماذا عن العلاقة بين السياسة والرأي العام؟ وقد بيّنت الاجتهادات التي قدّمها المفكّر، في كتابه "ثقافة الإرهاب" أنّ الغالبية العظمى من الشعب الأمريكي من ذوي الدخل المحدود تبدو وكأنها في واقع الأمر محرومة من حق الاقتراع، إذ إنّ آراء هذه الفئة ليس لها أي تأثير فعلي في القرارات السياسية على الأقل، ذلك التأثير الذي يهم الحكام الفعليين، وكلما تم الارتقاء أكثر في السلّم الطبقي، بحسب تشومسكي، يبدأ التأثير بالوضوح، إلى حين الوصول إلى الحلقة المغلقة حيث تصنع السياسات من طريق الليبراليين الجدد الذين لا تهمهم سوى مصالحهم الشخصية، مشكّلين جماعات ضغط، ولوبيات اقتصاد وحروب وسلاح.
وقد كشف كثير من استطلاعات الرأي أنّ الغالبية العظمى من المواطنين الأمريكيين يدركون هذه الحقيقة، ولذلك هناك احتقار متزايد لما تبقى من شذرات الديمقراطية الأمريكية، حيث أظهرت الانتخابات الأمريكية سنة 2014 في استطلاع للرأي، قام به الباحثان دين بيرنهام وتوماس فيرغسون، أنّ معدلات الاقتراع في أمريكا تدنت إلى مستويات أقرب إلى بدايات القرن الـ19، وكان الاستنتاج المنطقي الذي خرج به الباحثان هو أنّ "الانهيار السياسي سوف يستمر طالما لا شيء على المقياس المطلوب يمكن أن يقدّم للشعب، من قبل أي من الأحزاب الأمريكية الكبرى التي لا تبالي إلا بمصالحها المالية" (تشومسكي)، ولذلك رد بايدن على ترامب عندما اتهمه بالتدخل السيء في الحرب الأوكرانية قائلًا: "موّل أوكرانيا بالسلاح وليس بالمال، وهذا يخلق فرص عمل للأميركيين".
حيث كان تأثير أمريكا في حده الأدنى في أمريكا الجنوبية كان التقدّم باتجاه الديمقراطية أعظم
وفي بحث توماس كاروتارز الذي اشتغل سابقًا في وزارة الخارجية الأمريكية، حول مهمة الترويج الأمريكي للديمقراطية، "وجد أنّ هناك خطًا قويًا من الاستمرارية يربط بين الإدارات الأمريكية المتعاقبة، حيث تظهر الديمقراطية على أنها تتناسب، تمامًا مع مصالح أمريكا الأمنية والاقتصادية، فهي تروّج لها، أما عندما تتعارض الديمقراطية مع مصالح أخرى مهمة، فيجب التقليل من أهميتها أو تجاهلها تمامًا، وفي دراسة معيارية ثانية أجراها الباحث نفسه حول الترويج للديموقراطية في أمريكا الوسطى، استنتج أنه حيث كان تأثير أمريكا في حده الأدنى في أمريكا الجنوبية كان التقدّم باتجاه الديمقراطية أعظم، أما حيث كان نفوذ أمريكا متعاظمًا إلى حده الأقصى فقد كان التقدّم نحو الديمقراطية في حده الأدنى.
من جهة أخرى كل الحروب التي خاضتها أمريكا في فيتنام الجنوبية، والسلفادور ونيكاراجوا، ولاحقًا في العراق وأفغانستان كانت موضع إجماع أمريكي، لأنها حروب عظيمة من أجل حفظ المصالح وحماية أمريكا من المخاطر التي تتهددها، ولذلك لم تكن موضع نفي من جانب نظام الدعاية المُحكمة صناعته منذ عشرينات القرن الماضي، بل بالأحرى ما كان يمكن التعبير عن هذه الفكرة أو حتى تخيّلها، أما المخالفون المناهضون الداخليون لهذا الإجماع، فقد كانوا يتعرضون مرارًا وتكرارًا للعنف الدعائي من طرف الصحافة القومية، دون ذكر أسمائهم لضمان عدم إتاحة أي فرصة لهم للرد.
انفتاح الأمريكيين عبر الشبكات الرقمية على الساحات التي تشن فيها أمريكا حروبًا لا أخلاقية أو تدعمها قد بدأ بتغيير المعادلة
ولذلك "إذا كان الإجماع داخل الأنظمة الديكتاتورية يتحقق من طريق العقاب والسجن أو النفي والقتل الجماعي، فإنّ الأساليب المتاحة في المجتمع الحر تستخدم وسائل أكثر تطورًا ودقة عبر التحكم في الأفكار، أما الرافضون فلا يُسجنون أو يعاقبون، بل ببساطة تتم حماية الشعب من هرطقتهم" (تشومسكي)، والمحصّلة من ذلك أنّ مواطني المجتمع الحر لا يفتقرون عادة إلى الشجاعة أو الحرية للتعبير عن أفكارهم، أو إعلان معارضتهم للخط الرسمي الذي صنعته إدارتهم، بل إنهم يفتقرون إلى القدرة على التفكير في مثل هذه الأفكار، التي تمت إزاحتها من وعيهم من طرف مهندسي الإجماع الديمقراطي، منطلقين من المبدأ القائل: 'القرار للنخبة، والسلبية للعامة'.
غير أنّ انفتاحًا متزايدًا للأمريكيين عبر الشبكات الرقمية على الأحداث العالمية والساحات التي تشن فيها أمريكا حروبًا لا أخلاقية أو تدعمها، قد بدأ بالفعل بتغيير المعادلة، وهدم أسوار الإجماع الأمريكي، خاصة من طرف جيل الشباب الأكثر تعليمًا وثقافة، باعتبارهم نخبة الغد الأمريكي: رؤساء وسياسيين واقتصاديين وصنّاع قرار، ولذلك لربما ساهم ذلك في تغيير معادلة القوى العالمية، وسمح للنماذج الجيدة، التي اعتادت أمريكا سحقها وعدم السماح بتمددها، بالظهور هناك وهناك، وانتقال عدواها إلى مختلف بقاع العالم.
(خاص "عروبة 22")