لم يكن غريبًا أن تعلن السلطات الإثيوبية، وسط احتفالات كبرى، عن بدء الملء الخامس للسد، الذي بدأت بناءه مطلع عام 2011، وانتهت بالفعل من 97% من انشاءاته في زمن قصير، متجاهلة عن عمد ومراوغات سياسية عدة، جولات مستمرة من المفاوضات استمرت أكثر من 8 سنوات، وكانت تهدف إلى تقنين عمل السد وتشغيله بطريقة لا تؤثر على حصص المياه المقررة لدولتي المصب، وهو ما يفتح الباب واسعًا، أمام سيناريوهات مفزعة، قد تجد مصر نفسها مضطرة للجوء إليها قسرًا، من أجل الدفاع عن حقها المشروع في الحياة.
قبل أيام وقف وزيرا الري والسياحة الإثيوبيان، أمام عدسات المصورين ليلتقطا صورة نشرتها العديد من الصحف العالمية، وهما يتوسطان مجموعة من نجوم كرة القدم والفنانين الأفارقة، في أثناء زيارة للسد، وقد تزامنت تلك الزيارة مع الإعلان عن بدء الملء الخامس للسد، وهو الملء الذي يقول وزير الري والموارد المائية المصري الأسبق، الدكتور محمد نصر علام لـ"عروبة 22" إنه سوف يكون بالكامل من حصة مصر المائية، التي تقدّر بنحو ٥٥.٥ مليار متر مكعب سنويًا، يتم تخزينها في بحيرة السد العالي في سنوات الفيضان العالية، ويتم السحب منها بمعدلات ثابتة، وهو ما يعني أنّ التأثيرات السلبية للسد على مصر، سوف تظهر في سنوات الفيضان المنخفضة والجفاف، عندما يقل مخزون بحيرة السد العالي تدريجيًا، مع ما يعنيه ذلك من تقليل حجم إنتاج السد العالي للكهرباء، فضلًا عن عدم استكمال حصة مصر المائية في تلك السنوات العجاف.
لا يبدو نهر النيل بالنسبة إلى مصر، مجرد نهر مائي تحصل منه على احتياجاتها الطبيعية من المياه المخصصة للشرب والزراعة، ومختلف أنشطة الحياة الأخرى، لكنه يرتبط بها على نحو وثيق، بل أنه يسبق نشأة الحضارة المصرية بأمد طويل، مع أواخر عصر "الميوسين" عندما ظهر كنهر مصري بحت، لم يكن له اتصال بالحبشة إلا في مرحلة متأخرة، قبل أن ينجح النهر في أن يأسر الأنظمة النهرية الواقعة في جنوبه، ليمتد إلى هضبة البحيرات منذ بداية عصر "البلايستوسين" ويأخذ شكله الحالي، منذ أواخر الدهر القديم الأعلى، الذي استطاع المصريون فيه بجهد جماعي خارق ومنظّم، أن يحيلوا مستنقعات الغاب في الوادي والدلتا إلى أرض زراعية، احتضنت أقدم حضارة في العالم.
تبدو العلاقة بين المصريين والنيل منذ نشأة الدولة المركزية في مصر القديمة، حسبما يقول الدكتور أحمد السيد الصاوي، أستاذ الآثار الإسلامية بكلية الآثار بجامعة القاهرة، في دراسة بليغة له تحت عنوان "مجاعات مصر الفاطمية"، تجسيدًا للتفاعل الخلّاق بين الإنسان والنهر، على نحو يؤكد بوضوح أنّ النهر والدولة المركزية يمثلان الضمانة الرئيسة لحياة المصريين، فقد كان نقص فيضان النيل، هو السبب الرئيس في أغلب الأحوال، الذي وقف وراء العديد من المجاعات التي ضربت مصر في العصور السحيقة، بدءًا من المجاعة التي شهدتها البلاد في عصر نبي الله يوسف عليه السلام، في القرن الثامن والعشرين قبل الميلاد، التي تخلّف فيها النيل سبع سنوات تباعًا، "فشحت الغلة وجفت الفاكهة وقلّ الطعام"، لكنها لم تكن المجاعة الوحيدة الناتجة عن تراجع النهر، فقد كانت تلك المجاعات من الكثرة وخطورة النتائج، حسبما يقول الصاوي، إلى حد أنها أثّرت بشكل كبير على بناء الدولة المصرية، وكان حد وفاء النيل بعد الفتح الإسلامي لمصر، يتمثّل فى بلوغ مقياس النهر مقدار 16 ذراعًا، وكانت تلك النسبة كافية لزراعة ثلاثة أرباع أرض مصر، فإذا بلغت 17 ذراعًا، فإنّ ذلك معناه كامل النفع، وقد ظلّ الاحتفال بوفاء النيل، يتم عند بلوغ تلك النسبة حتى نهايات العصر المملوكي، رغم أنّ ذلك الحد لم يكن كافيًا لزراعة كامل الأرض وقتها، لكنه كان كافيًا لدرء خطر المجاعة عن البلاد.
شهدت مصر، سلسلة من المجاعات بسبب انحسار مياه النيل، ما تسبّب فى رفع الأسعار، بعد اختفاء القمح من الأسواق، ورغم أنّ النيل لم يصل خلال المجاعات التي ضربت مصر في عصر المستنصر حد القحط، إلا أنّ خلوّ المخازن السلطانية من الغلال، أدى إلى اشتداد المسغبة، حيث لعبت نزاعات الجند دورًا كبيرًا في صناعة تلك "الشدة"، عندما شلّت يد الحكومة وأخلّت بالأمن، وجعلت من الأحداث كارثة حقيقية طال أمدها إلى سبع سنوات، انهارت فيها القوة الشرائية للنقود، وارتفعت أسعار المواد الغذائية، حتى أنّ حارة بالفسطاط بيعت بطبق من الخبز.
لا تتوقف الأضرار المحتملة لسد النهضة الإثيوبي على مصر، وغيره من السدود الإثيوبية الأخرى المخططة أمريكيًا على النيل الأزرق، عند حد تهديد حصة مصر السنوية من مياه النهر، لكنها تمتد لما هو أكبر من ذلك، حسبما يرى الدكتور محمد نصر علام، فالهدف الأساسي لمثل هذه المشروعات التي بدأ التخطيط لها منذ نهاية خمسينات القرن الماضي، عبر مشروعات علمية وبحثية كبرى، قامت بها جامعات ومنظمات أمريكية وبريطانية، هو العمل على إفشال مشروع السد العالي، أو بالأصح إفشال محاولات مصر "عبد الناصر" لتحقيق أمنها المائي، من خلال حجز المياه على الهضبة الإثيوبية 3.
والنتيجة أو وربما يكون الهدف الخفي كارثي إذا ما انفردت إثيوبيا بإدارة السد، إذ قد يؤدي حجب المياه خلف جسم السد إلى تغييرات عكسية في مسار النهر، الذي يجري منذ فجر التاريخ من الجنوب إلى الشمال، وما قد ينتهي إليه ذلك من انتقال كامل المخزون المائي لبحيرة السد العالي للاتجاه المعاكس!.
(خاص "عروبة 22")