إنَّ احتواء مجتمعاتنا لكل هذه المصائب يؤكِّدُ الحاجةَ إلى التفكير بحلٍّ شاملٍ لها، والشمولية هنا تعني الدقة والتفصيل وليس اختصار المشهد ليصبح خطابًا عموميًّا في الصمود والتصدي وغير ذلك من الشعارات.
التوجيه التربوي المجتمعي والعناية الثقافية بالفرد لهما شديد التأثير في ضبط سيرورة المجتمع الارتقائية
والدقة والتفصيل لا يمكن أن تنجزهما جهةٌ واحدة في المجتمع، ولا أن تدَّعي أي فئةٍ فاعلةٍ الإحاطة الشاملة بالحل، بل إنهما يقتضيان توزُّعَ المهام التثقيفية والتطويرية للفرد على كل الجهات المتخصصة، بسيولةٍ لا يحدُّها شيء. لا بد من تنمية الفرد وبناء شخصيته بالعلوم الإنسانية والأفكار الكبرى والتساؤلات المفتوحة التي تفتح له آفاق التوسُّع المعرفي والتخصص العلمي بالمعاهد والجامعات.
فالتوجيه التربوي المجتمعي والعناية الثقافية بالفرد، لهما شديد التأثير في ضبط سيرورة المجتمع الارتقائية نحو الارتباط الحيّ بالأخلاق الكونية التي تنتظم وفقها العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان. وليس الاقتصاد والسياسة والتكنولوجيا والتفوّق العلمي أمورًا ميتافيزيقية هبطت على رؤوس الخلق، بل هي نتاج تفكيرهم اليومي، لذا بالإمكان تحسين الأداء وتجويد القيم الأخلاقية وتنسيق المعايير المؤثرة في السياق العالمي، على الرغم من أنّ هناك جهات هي التي تسوس النظام العالمي، ولكن بالإمكان الصعود بالتخطيط والابتكار، وتجارب الدول المتقدمة الفاعلة اليوم كالصين وغيرها شاهدٌ حيّ.
إنّ العناية بالتفكير الفردي للكائن البشري أمرٌ شديد الأهمية، ذلك أنّ كل الأفكار والأيديولوجيات والثقافات لا إمكان لبقائها واستمرارها إلا إذا كان هناك أفرادٌ يفعِّلون نشاطها وحياتها. من هنا، نرى أنّ المقاومة الحقيقية للظلم والشر لا ينجزها السلاح أولًا، بل إنّ الأوَّلية يجب أن تكون لهذه العناية القصدية بالفرد وعيشه الكريم. ولا يستقيم مفهوم الإقامة في العالم إلا إذا كان الإنسانُ غيرَ قابلٍ للموت العبثي. نعم، إنّ الموت يجب ألا يكون فعلًا قصديًّا في الحياة، بل على المرء العمل على منع حدوث الموت مجانًا. إنَّ الوطن الحقيقي هو الإنسان الفاعل الحر، فلا شيءَ أقدَرُ في مقاومة المحتلِّ الغاصب للأرض من استمرار وجود الإنسان نفسه في وجه من يريد قتلَه.
وإذا كان العدوُّ مغتصبًا للأرض، فهذا يستدعي ألا نمكِّنه من استباحةِ إنسانِ هذه الأرض، وهذا لا يتمُّ إلا بتفويت الفرصة على العدو من ممارسةِ الشرِّ والرذيلة، أي بالقدرة على إعطابِ السلاحِ في غِمْده دون تمكينه من استخدامه.
قد تختلف ذهنيةُ المواجهة اليوم عن ذهنية الأمس القريب، لكن علينا أن نتعلَّم من دروس الحروب الكبرى على أرضنا. فالحروب العربية الإسرائيلية منذ النكبة إلى اليوم، واحتلال العراق، والأطماع الإيرانية المتكررة في البلاد العربية وغيرها من الأطماع الإقليمية والدولية، والحروب الأهلية والطائفية المنتشرة هنا وهناك،...إلخ، كل ذلك يستدعي منَّا التخطيط الحر للتغيير الناجع. فإذا كانت صورة البطل العسكري والانقلاب الثوري والحماسة الدينية والحركات العصبوية الطائفية قد طبعت القرن العشرين العربي بهذا الطابع الانفعالي في محاولة مَلْء الشغور الذي أحدثَه غياب مفهوم واضح لبناء الدولة العربية المعاصرة، فإنّ الحدث العربي اليوم يتطلَّبُ الحضور الفاعل في التأسيس الهادئ للمفاهيم. علينا وعيُ ذواتنا على عواهنها كي نفهم حيثيَّة الانطلاق الفاعل في تغيير المشهد. لا شيءَ أنفعُ من الاعتراف بالواقع كما هو، حتى نحدِّدَ المستقبلَ كما نريد.
هل يُعقَل ألا يكون العربيُّ قادرًا على أن يكون عربيًّا بسبب اختلاق الهُويَّات من الكائنات المعطِّلة للتجديد والتحديث؟
علينا استعادةُ الإنسان في ذواتنا. هذا المفهوم الذي عانى كثيرًا من العقد والارتباكات والمصائب والنزاعات العبثية التي حجبَت ظهورَه الحر حيث هو. هل يُعقَلُ ألا يكونَ العربيُّ قادرًا على أن يكون عربيًّا اليوم بسبب اختلاق الهُويَّات السريعة التحضير من جهة الكائنات الماضويَّة المعطِّلة للتجديد والتحديث والتي لا تزال عندها الجهوزية المطلقة للعودة إلى لحظةٍ هامدةٍ في التاريخ، تستعيدها بفوضى عارمة تحدثُ غبارًا لا يمكن إخمادُه بسهولة، لأنها لحظة غير قابلة للإحياء ببساطة؟ تتجلَّى هذه الإحضارات للحظات الميتة إلى الحضور الحي بذهنية غير قابلة للخروج من شرانِق التفكير بالهيمنة واستعادة أمجاد إمبراطوريات ودول وإثنيات ولغات غابرة.
لذا علينا استعادة الإنسان من مستنقعات الأفكار الميتة، وفتح الفرصةِ أمامه للحضور الحرِّ في يومِه، وليبْدأ زمانه ومكانه وفهمه كيفَ يشاء، فلا يثنيه شيءٌ عن حبِّ الحياة والإقدام المكين على صناعةِ موقف من الكون والكائنات.
(خاص "عروبة 22")