لكنّ الأحوال بدأت تتحسّن رويدًا رويدًا منذ مطلع العصور الحديثة للإنسان، غير أنّ المسيرة لم تخلُ من عراقيل خطيرة، إذ عرف البشر ظواهر شرّيرة من نوع الديكتاتوريّة والاستبداد والفاشيّة راحت تُطلّ برأسها مع ظهور الديموقراطية قيمًا وآلياتٍ للحكم، وابتُليت شعوب وأمم عديدة بنظمٍ وحكامٍ ديكتاتوريين قُساة وعُتاة، كانت وما زالت أمّتنا العربية أكثر الأمم المُبتلية بهذه الداء الخطير، وأطولها عمرًا في المرض.
الديكتاتور في هذه الرواية يكاد يجمع كلّ سمات وملامح أي ديكتاتور يعرفه القرّاء
للروائي الكولومبي الأسطوري غابريال غارسيا ماركيز (Gabriel García Márquez) رواية ذائعة الصيت تُدعى "خريف البطريرك" (أو خريف الجنرال في بعض الترجمات)، يعتبرها الكثيرون إسهامًا مُتفرّدًا ومُدهشًا لأديب أميركا اللّاتينية الأشهر في مسيرة التناول الإبداعي الأدبي لظاهرة الحكام الديكتاتوريين. تلك المسيرة الطويلة الحافلة التي انخرط فيها أدباء ومُبدعون ينتمون لثقافات وأوطان وأمم شتّى، من أوروبيين وأفارقة وآسيويين وعرب ومن أميركا اللاتينية بالذات... جميعهم اتّخذوا من الديكتاتور الظالم الفاسد المُدجّج والمسلّح دائمًا وأبدًا بالعنف والقسوة اللّامتناهيَيْن، فضلًا عن ضيق الأفق والعمى المعرفي والأخلاقي، موضوعًا للإبداع القصصي والروائي لا يخلو من ثراءٍ دراميّ بسبب تعدّد وتعقّد أبعاد ظاهرة الحكم الديكتاتوري إنسانيًا ومجتمعيًا وذاتيًّا (ذات الديكتاتور وطبيعة تكوينه النفسي النادر).
أعود إلى "خريف البطريرك"، فالديكتاتور في هذه الرواية يكاد يجمع من دون اختصار، كلّ سمات وملامح أي ديكتاتور يعرفه القرّاء من النّاس، مهما تعدّدت اللّغات التي يقرأون بها والمجتمعات التي يعيشون فيها، بحيث يستطيع كلّ واحد منهم أن يجد بسهولةٍ في هذا" البطريرك" ـ وهو الاسم الوحيد الذي نعرفه به طوال الرواية ـ ديكتاتوره أو الديكتاتور الذي يكابد البشر شروره في الرواية، لأنّ ماركيز رسمه ونحت معالم شخصيته وسلوكيّاته على نحوٍ يجعله نموذجًا شبه متكامل لأولئك الحكام الجهلة الظالمين الفاسدين وقساة القلوب كذلك. ليس فقط من خلال تصويره عيّنةٍ من فجورهم وجرائمهم ورصد وتتبّع انعكاساتها وثمارها وهي ترتدّ لتُصيب الديكتاتور نفسه، وإنّما أيضًا من خلال نقل وتصوير أجواء الوحدة وبرودة العزلة الشديدة التي يعانيهما هذا الأخير، بينما هو يشيخ ويهرم ويزوي ويذبل ويتعفّن مهجورًا في قصره ووسط هيْلمان سلطانه وسلطاته التي تتضخّم وتتفاقم حتّى تستقرّ في قلب أوهام الألوهية والخلود الأبدي.
على الرَّغم من بعض الصعوبة التي قد يعاني منه قارئ "خريف البطريرك" والتي تعود أساسًا إلى تقنية بنائها المُعقّد وتعدّد مصادر ومستويات الحكي فيها على نحوٍ يُجبر القارئ على أن يقوم بنفسه بعملية إعادة ترتيب أحداثها بطريقةٍ مُتسلسلة، فإنّ الرواية لا تتأخّر في إمتاعك، وتأخذك فورًا إلى العالم الغرائبي الذي تدور فيه حكاية طاغية ترعرع وعاش في بلدٍ ما من بلدان منطقة الكاريبي التي تقع في أميركا الوسطى، وتحديدًا في المراحل الأخيرة من عهد نظام حكمٍ سُمّي "النيابة الملكية".
وفي هذه المرحلة التي استمرّت 11 سنة يتناوب على الحكم 14 جنرالًا يُمَارِسُ كلّ منهم السلطة المُطلقة نيابةً عن ملوك أسرة من الأُسَر المالكة تلك ولا يظهرون أبدًا، وإذ يُقْدِمُ آخر هؤلاء الجنرالات على حماقة رفض شروط ومطالب بريطانيا صاحبة النفوذ الأقوى في البلاد، فإنّ هذه الأخيرة تدفع "البطريرك" الذي هو مجرّد عسكري أمّي يتميّز بقسوته ودمويّته ونزوعه الجامح للمغامرة، إلى قيادة تمرّدٍ مُسلّحٍ يُنَصِّبُ نفسه بعده حاكمًا للبلاد.
بَقي أكثر من مائة عام ميتًا في قصره لكنّ أحدًا لم يجرؤ على أن يصارحه بهذه الحقيقة
وفيما "البطريرك" يحكم عددًا هائلًا من العقود والسنين (لا تحدّدها الرواية) متوسّلًا بكلّ صور وأنواع الجرائم من الفساد والسرقة واسترضاء الأجانب على حساب مصالح وثروات البلاد وانتهاءً باستسهال القتل الوحشي لأتفه الأسباب، ناشرًا أجواء خوف ورعب مُرَوِّعَيْن جعلت منه أسطورةً تخلع قلوب رجاله ووزرائه وكلّ المحيطين به قبل مواطنيه ورعيّته، وفيما تبلغ سطوة "البطريرك" والاعتقاد باستحالة غيابه حدود الخرافة، فإنّ نهايته الحتميّة تأتي فعلًا، لكن لا أحد في الرواية يعرف متى أتت بالضبط وإنْ عُرِفَت لا يستطيع الاعتراف بها ولا حتّى لنفسه... بل إن ماركيز يترك القرّاء في حيرةٍ بين رَقْمَيْن كلّ منهما تقول القصة إنّه عدد السنين التي عاشها الديكتاتور في هذه الدنيا، فأحيانًا الرّقم هو 108 سنوات وأحيانًا أخرى 232 سنة!.
مخرجٌ واحدٌ فقط من هذه الحيرة يدفعك غارسيا ماركيز إليه دفعًا في الفصول الأخيرة من الرواية، خلاصته أنّ "البطريرك" بَقي أكثر من مائة عام ميتًا في قصره، لكنّ أحدًا لم يجرؤ على أن يصارحه بهذه الحقيقة... لقد انتهيتَ ومُتَّ وتعفّنتَ يا فخامة الجنرال منذ مائة سنة!.
(خاص "عروبة 22")