الصورة القائمة للاقتصاد السوري، تظهر في مؤشّرات دماره، ومنها انخفاض النّاتج المحلي الإجمالي بنسبة 85 بالمائة في سنوات الحرب، والذي ترافق مع ارتفاع معدّل التضخّم بصورةٍ كبيرةٍ خلال الفترة ذاتها، إذ بلغ في العام 2021 معدّل 220%، ممّا يعكس التدهور الكبير في قيمة الليرة السورية، التي كانت تساوي 47 ليرة للدولار عام 2011، ثم وصلت إلى 13 ألف ليرة مقابل الدولار عام 2024، وهو تعبير خطير على مستوى انخفاض القوة الشرائية للعملة السورية.
وأدّت سنوات الحرب والتدخّلات الإقليمية والدولية في سوريا إلى تدميرٍ شبه كاملٍ أو جزئيّ للبنية التحتية بما فيها المرافق العامة، ومنها شبكات المواصلات والاتصالات والمياه والكهرباء، إضافةً إلى دمار تجمّعات سكانيّة تشمل مدنًا وقرى ومعها مشاريع إنتاجية وخدمية، وتوقُّف أغلب الأنشطة الاقتصادية الخدمية والإنتاجية في قطاعات الصحة والتعليم والسياحة والزراعة والصناعة بما فيها الصناعات الاستخراجية.
دور خاصّ لنخبة نظام الأسد ورأسها بشار فيما أصاب الاقتصاد من دمار
ولعلّ الأهمّ في مؤشرات دمار الاقتصاد، يبدو فيما لحق بالقوة البشرية، إذ تصاعدت مستويات الفقر لتصل إلى ما فوق 90 بالمائة من السوريين، وارتفع معدّل البطالة المُقنّعة إلى نحو 85 بالمائة من إجماليّ قوة العمل، وتسبّبت الحرب في حركة نزوح داخليّ وهجرة خارجيّة طالت أكثر من ثلث السكان، بينهم قسم كبير من الكفاءات من أساتذة الجامعات والأطباء والمهندسين والإداريين الأكفاء ورجال المال والأعمال. ولم يكن النّازحون والمهجّرون وحدهم ضحايا الحرب، بل معهم أكثر من مليون قتيل ومثلهم في أقلّ التقديرات من مصابين وصلوا حدّ العجز، فضلًا عن آخرين اختفوا قسرًا.
وتعكس المؤشرات السابقة حجم الدمار والخراب الذي لحق بالاقتصاد نتيجةً للحرب، والتي لم يشارك فيها السوريون فقط، بل انضمت إليها أطراف خارجية بينها روسيا وإيران والميليشيات الشيعيّة وجماعات إرهابية متطرّفة يتقدّمها "داعش". كما فاقمت العقوبات الدولية دمار الاقتصاد، إضافةً إلى تدهور الوضع المائي الذي أثّر سلبًا خصوصًا في قطاعَي الزراعة وتوليد الطاقة نتيجة انخفاض الهطولات المطريّة، وسياسة حبس المياه المشتركة من تركيا نحو سوريا.
إشاعة الفساد مرفقًا بنهب المال العام والرشاوى وفرض الخاوات صارت سلوكيّات شائعة وعلنيّة
إنّ استكمال صورة الاقتصاد السوري المدمَّر لا يتمّ من دون التوقّف عند الدور الخاصّ لنخبة نظام الأسد ورأسها بشار فيما أصاب الاقتصاد من دمار، الأمر الذي يتطلّب التوقّف عند ثلاث نقاط في سياسة الأسد:
- أوّلها، سياسة الانتقام والتدمير التي طبّقها مع بدء الاحتجاجات الشعبية في 2011، حين أطلق يد الجيش والمخابرات و"الشبّيحة" ضدّ المحتجّين ومناطق الاحتجاج، حيث بدأت عمليات القتل والاعتقال والتهجير، ثم التدمير والنّهب وصولًا إلى "تعفيش" الممتلكات الخاصّة والعامّة، ليس بهدف منفعة أدوات النظام فقط، بل من أجل خلق المزيد من الصعوبات في حياة الثائرين وحواضنهم الاجتماعية.
تضاعفت نزعات بشار وزوجته لجمع الأموال في السنوات الأخيرة
- وكان الشقّ الثاني من سياسة الأسد ونظامه إشاعة الفساد مرفقًا بنهب المال العام والرشاوى وفرض الخاوات في الدولة والمجتمع، بحيث صارت سلوكيّات شائعة وعلنيّة في المجتمع، تؤدّي إلى تراكم ثروات بطانة النظام من جهة، وتساهم من جهة ثانية في تغطية جزءٍ من احتياجات العاملين في أجهزته الذين تنامت أطماعهم، وبدأت تعضّهم أسنان الحاجة بسبب انخفاض رواتبهم وتعويضاتهم.
- الشقّ الثالث من سياسة الأسد في أسباب دمار الاقتصاد، كرّسها سعيه لجمع أكثر ما يمكن من الثروة، من أموال ومعادن ثمينة وممتلكات مختلفة، وقد شاركت زوجته أسماء الأسد وأقاربها ومتعاونون معها جرى تصعيدهم إلى مرتبة "رجال مال وأعمال" في جمع ثرواتٍ للعائلة عبر هياكل وظيفيّة وأمنيّة تشرف عليها، ولم توفّر في طريقها مقرّبين بينهم رامي مخلوف ابن خال بشار.
التقديرات تُفيد بأنّ ثروة بشار تُقدّر بنحو 200 مليار دولار
وإذ قَدّر بعض المصادر حجم ثروة الأسد ما بين 12 و16 مليار دولار، فإنّ هذه التقديرات تبدو أقلّ بكثير ممّا هي في الواقع استنادًا إلى نقطتَيْن: الأولى، أنّ ثروة بشار لا يمكن أن تنفصل عن ثروة العائلة، التي بدأت تتراكم مع استيلاء حافظ الأسد على السلطة عام 1970، وقد تضاعفت نزعات بشار وزوجته لجمع الأموال في السنوات الأخيرة. والثانية، أنّ بشار، وكما فعل شقيقه باسل قبل موته عام 1994، له حسابات سرّية في بلدان كثيرة بينها البرازيل والإمارات العربية المتحدة وروسيا وبلدان أوروبية.
وإذا كان من الصعب الوصول إلى أرقامٍ حقيقيةٍ في ثروة بشار التي نهبها من سوريا، فإنّ التقديرات الشائعة تُفيد بأنّ ثروته تُقدّر بنحو 200 مليار دولار، وهو تقدير معقول لشخصٍ ورث السلطة عن أبيه بعد ثلاثين عامًا، وتحكّم بكلّ ثروات سوريا لخمس وعشرين سنة تالية، واستولى مباشرةً أو عن طريق زوجته على ثروات كبار المقرّبين إليه.
كشْف جوانب دمار الاقتصاد في سوريا ضرورة من أجل تجنُّب منزلقات المرحلة المقبلة
ولم يكن سلوك بشار وأثره في دمار الاقتصاد سوى مثال لما سار عليه شقيقه ماهر وأقاربه وبطانة من المقرّبين، مارسوا عمليات فساد ونهب واستغلال السلطة، راكموا من خلالها ثروات هائلة على مدار عقود، يصعب تقدير حجمها.
إنّ كشْف جوانب دمار الاقتصاد في سوريا ضرورة، من أجل فهمٍ أعمق لما جرى، وتجنُّب منزلقات المرحلة المقبلة في سوريا، والتي قد تقودنا التجارب المحتملة إليها. والأهمّ في هذا الكشف أنّه يساعد على رسم استراتيجيّة تجاوز الدمار الحالي، ويفتح الأبواب نحو المعافاة الاقتصادية/الاجتماعية، التي لا بدّ منها في زمن البحث عن حياة أفضل للسوريين.
(خاص "عروبة 22")