النقاش الفكري لم يكن معطلًا بالكامل خلال مراحل التحوّل الحديثة، فقد حدثت محاولات لمنهجة المشترك العربي والتأسيس لبنية موحّدة تسمح بحوار ناضج حول أدوات الوحدة العربية. كانت اللغة هي أهم هذه الأدوات إلا أنّ عامل العروبة نفسه لم يكن محلّ إجماع خارج التذبذات الإيديولوجية.
كان موضوع الوحدة محلّ خلاف من حيث الإجراءات الفنية للاتحاد نفسه
فمن الناحية الجيوسياسية كان العالم العربي مقسّمًا ببن عدة مستقطبات (أفريقيا، آسيا، العالم الإسلامي، الخليج العربي، المغرب العربي)، يُضاف إلى ذلك البُعد الثوري الذي طبع بعض الدعوات الوحدوية في محيط عربي مختلف البنى سياسيًا من حيث النظم الحاكمة (ملكية، ملكية برلمانية، اتحاد إمارات، نظام جمهوري، سلطنة)، كما كان موضوع الوحدة محلّ خلاف من حيث الإجراءات الفنية للاتحاد نفسه، ويمكن تقسيم هذا الاختلاف إلى محاور نظرية وأخرى سياسية لكلّ منها منطلقاته ومبرراته المنطقية.
فقد كانت هناك أطروحة ثورية تعتقد بإمكانية اتخاذ قرار الوحدة ومناقشة آلياته ومناصبه دون مقدمات ولا تحضيرات مؤسسة.
وفي المقابل، كانت هناك أطروحة تراكمية يرى أصحابها أنّ الوحدة تبدأ بنسج العلاقات الاقتصادية وتوطيد التكتلات الجزئية وتوسيع الاتفاقيات وتطوير العلاقات حتى تكتمل بنية الاتحاد شيئًا فشيئًا دون المساس ببنية الدولة القُطرية.
يضاف إلى ذلك توجّه آخر لم يكن متعاطفًا مع دعوات الوحدة لأسباب سياسية وأمنية وديمغرافية، وقادة هذا التوجه كانوا منشغلين بملفات مختلفة منها الخلاف البيني أو التحيّز ضمن حالة الاستقطاب العالمي الحاد آنذاك.
في هذه الظروف وضمن هذا المناخ السياسي والاقتصادي والأمني، كانت معالم التحديث تتسلّل للكثير من الدول المحيطة بالعالم العربي، وفي ظلّ الظروف القاسية المحيطة بهذا الكيان كانت الشعوب العربية تعيش حالة من الاغتراب النفسي والثقافي عطّل القدرة على تحديد الهوية القادرة على الإبهار والانبهار في الوقت ذاته.
كان واضحًا أنّ "ارتباك الهوية" في أواخر الخمسينات والستينات والسبعينات سيتمدّد لأجيال قادمة
جرت تطورات لاحقة فيما بعد، حيث تسلّلت الشكلانية إلى أحياء وبيوت الطبقة الراقية - بما فيها النخب الحاكمة - وانعكست مسلكيات التقليد على حياة الطبقة المتوسطة، مما أحدث شرخًا كبيرًا بين هذه الشعوب وهويتها، وكانت "تقليعات" الدول المتقدمة والمنتعشة اقتصاديًا تجوب الطرقات العربية كأنماط معترف بها للشعوب غير المتخلفة (الشراب، الحفلات، الجينز، السيارات الأمريكية، رقصات المجتمع الأرستقراطي الأوروبي، تقليعات الشعر، الموضة، الإتيكيت.. إلخ).
لكنّ القضية الأكثر أهميةً وعمقًا هي اصطفاف أبناء الطبقات الميسورة والمتوسطة على أبواب المدارس الأجنبية والحاذية حذوها، حيث كان واضحًا أنّ ما يحدث من ارتباك للهوية في أواخر الخمسينات والستينات والسبعينات، سيتمدّد لأجيال قادمة نتيجة توريث النخبة لذاتها في جيل نشأ وشبّ وتعلّم في محيط لا ينتمي معرفيًا ولا سلوكيًا للأمة العربية.
المصالح المشتركة تحتاج إلى بنية ذاتية مشتركة تحتضنها وتؤسّس لتوسيعها وتطويرها
وعلى الرغم من وجود تيارات وأنظمة ساهمت في مقاومة هذه "التقليعة" السلوكية، إلا أنّ إشكالية اغتراب الذات العربية كان مشوشًا على البدائل الصالحة للتواصل مع الذوات المعاصرة، إضافة بالطبع إلى عامل المقاومة الأيديولوجية لهذه التيارات والأنظمة لأسباب سياسية صرف.
أعتقد أنّ ما ينبغي أن تتطارحه النخب العربية هو سؤال الهوية أمام تحديات التحديث، والقُطرية والقارية والوحدة، لأنّ المصالح المشتركة تحتاج إلى بنية ذاتية مشتركة تحتضنها وتؤسّس لتوسيعها وتطويرها.
(خاص "عروبة 22")