قبل يومين فقط، من حوز الحكومة المصرية الجديدة الثقة في جلسة نيابية شهدت وقائع قمع غير مسبوقة لنواب المعارضة كُتمت فيها أصواتهم وحُذفت من المضبطة مداخلاتهم، وقع الأمر الأول، إذ وبشكل مفاجئ أعلنت دولة جنوب السودان المصادقة على اتفاقية الإطار التعاوني لحوض النيل والمعروفة إعلاميًا باسم "عنتيبي".
وتعود اتفاقية "عنتيبي" إلى عام 2010، عندما وقّعت كل من إثيوبيا وتنزانيا وأوغندا ورواندا على اتفاق انضمت إليه لاحقًا كينيا وبوروندي، وصادقت تلك الدول تباعًا على الاتفاقية التي عارضتها دولتا المصب -مصر والسودان- اللتان تمسّكتا بمعاهدات أعوام 1902 و1929 و1959 والتي تنص على عدم الإضرار بدول المصب وتقر نسبة 55.5 مليار متر مكعب من مياه النيل لمصر، و18.5 مليار متر مكعب للسودان.
من المقدّر أن يكون الملء الخامس لسد النهضة الأكثر تأثيرًا على دولتَيّ المصب
ورغم خطورة إقدام جنوب السودان على تلك الخطوة، إلا أنّ القاهرة -حتى كتابة هذه السطور- التزمت الصمت، في المقابل خرج رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد مفاخرًا بأنّ مصادقة جنوب السودان على الاتفاقية الإطارية "إنجاز دبلوماسي ولحظة تاريخية" لبلاده.
وتتضمن اتفاقية "عنتيبي" بندًا يمنح دول المنبع الحق في إقامة مشروعات على مجرى النيل دون الرجوع لدول المصب، ما يعني عمليًا تحكّم تلك الدول في حصص مياه مصر والسودان.
لم يكن توقيع جنوب السودان على اتفاقية "عنتيبي" هو إنجاز آبي أحمد الوحيد الذي حققه في صراعه مع القاهرة والخرطوم منذ توليه السلطة في بلاده قبل 6 سنوات، فالرجل تعهد بالانتهاء من إقامة سد النهضة، متحديًا "أي قوة تمنع أديس أبابا من تحقيق حلمها"، وها قد فعل، ثم أعلن عن تحدٍ آخر بقوله إنّ "ملء السد لن يكون محل نقاش مع أحد"، ونفذ ما وعد، متجاهلًا الدعوات المصرية/السودانية لعدم استكمال ملء السد إلا بعد الوصول لاتفاق قانوني ملزم يحافظ على حصص دولتَيَ المصب.
ووسط انشغال مؤسسات الدولة المصرية بـ"تثبيت" أركان الحكومة الجديدة التي حازت ثقة البرلمان لكنها لا تزال فاقدة لثقة الشارع، خاصة بعدما تبيّن تدليس أحد وزرائها بادعائه حصوله على شهادات علمية ثبت بالدليل أنها مزوّرة، وقع الأمر الثاني؛ وهو إعلان إثيوبيا أنها ستبدأ الملء الخامس لسد النهضة نهاية الشهر الجاري، والذي من المتوقع أن تحجز به 23 مليار متر مكعب إضافية من مياه النيل تضاف إلى 41 مليار متر مكعب آخر تم احتجازها في المراحل السابقة.
ومن المقدّر أن يكون الملء الخامس الأكثر تأثيرًا على دولتَيّ المصب، إذ إنه يختلف عن التخزينات السابقة، فخلال الأعوام الماضية لم يكن يمكن لإثيوبيا أن تفتح بوابات التصريف خلال موسم التخزين بسبب عدم اكتمال بناء السد، أما وقد اكتمل البناء الخرساني، فيمكن لها أن تفتح بوابات التصريف خلال الملء لتسمح بمرور جزء من المياه إلى السودان ومصر، ما يعني أنّ القرار أصبح في "يد إثيوبيا"، بحسب خبير الموارد المائية عباس شراقي.
"كلما زادت السعة التخزينية لسد النهضة زادت قدرة إثيوبيا على التحكّم في مياه النيل"، هذا ما يراه خبراء مياه، قدّروا أنّ السد سيكون قادرًا على تخزين نحو 50% من حصص دولتَيّ المصب لمدة 3 سنوات أو أكثر، وحذروا من أنّ تلك السنوات ستكون عجافًا على شعبَيّ وادي النيل.
ورغم ما يحمله إعلان إثيوبيا من مخاطر، إلا أنّ القاهرة اكتفت بتصريح خافت على لسان رئيس وزرائها حذّر فيه من المساس بحصة مصر في مياه النيل، وأكد أنّ بلاده "ليست ضد أي مشروع تنموي يُقام في أي دولة".
لم تكن إثيوبيا لتدخل المعركة دون حصولها على دعم قوى إقليمية ودولية توافقت على حصار مصر وتفتيت السودان
لم تأخد إثيوبيا أي تحذيرات مصرية على محمل الجد، بدليل استكمالها مشروعها وفقًا للمخطط الزمني الموضوع، أما تصريحات إبراء الذمة فلم تعد تقنع الرأي العام المصري الذي بلغ به القلق مبلغه بعدما أدرك أنّ مفتاح حياته أصبح في أيدي الأحباش.
لم تكن إثيوبيا لتدخل تلك المعركة التي حسمت كل جولاتها حتى الآن، دون حصولها ليس على ضوء أخضر فحسب، بل على دعم مباشر من قوى إقليمية ودولية توافقت جميعها على حصار مصر المنهكة اقتصاديًا وتفتيت السودان الذي أرهقته الحروب الأهلية.
لا يحتاج فك هذا اللغز إلى إمعان في التفكير لمعرفة من يقف وراء ضرب الأمن المائي المصري السوداني، فبصمات إسرائيل وحلفائها وداعميها في الإقليم والغرب لا تخطئها عين، لكن في المقابل ماذا فعلت القاهرة والخرطوم لمجابهة هذا المخططات؟.. الأولى دفنت رأسها في أزمتها الاقتصادية واكتفت حكومتها بوضع سطر في برنامجها عن ضرورة "حماية نهر النيل بتعزيز التعاون الإقليمي والدولي لحماية الموارد المائية"، والثانية أغرقتها حرب الجنرالات في معارك دامية دفعت أغنى دولة عربية إلى حافة المجاعة.
(خاص "عروبة 22")