ذلك أنّ البحث العلمي الجاري تغلغل في برمجيات "الحكمة الغامضة"، والمهارات الاجتماعية البشرية، والتفكير الافتراضي، ومشكلة التأصيل المعرفي.. إلى جانب تركيز الأبحاث والتجارب المؤدية إلى وسائل لتمثيل "المعرفة البديهية"، التي تتمثّل في المخ البشري بشكل غير واعٍ، خصوصًا في وجود مشكلة "عدم توصل المنطق المجرد إلى تأكيد الحقيقة أم لا؟"؛ وأنّ التفكير الإنساني عادةً هو تفكير رمزي يرتكز على بيانات ومعلومات وخبرات سابقة، أو بديهيات مكتسبة أو فطرية.
إذا ما توقفنا هنا قليلًا، يتجلى الحد الحاسم لانطلاق الذكاء الاصطناعي، فهو مقيّد بما يمليه عليه العقل البشري ويمثّله له في معطيات هندسة المعرفة. وما دامت هناك مساحات كثيرة غامضة، بل مجهولة، في العقل البشري وكيفية أدائه لمهامه وإنجازه لعملياته المختلفة، فالنتيجة هي صعوبة تمثيل هذا النوع من المعرفة "المجهولة" أو المعرفة "اللاواعية"؛ ومن ثم فإنّ توصيف مثل هذا النوع من المعرفة الإنسانية للآلة، يستحيل حتى الآن، ولا يمكن أن يصنع ذكاءً آليًا يحاكيه. وعليه، تنتفي أو تتعطل هنا، ما يُعرف بأطروحة "دارتموث" التي يأخذ بها معظم الباحثين في المجال، وهي تقول: "إنّ وصف أي جانب من جوانب الذكاء البشري بدقة يمكّن من صنع ذكاء آلي يحاكيه"...
الذكاء الاصطناعي قاصر جدًا أمام إمكانيات الكائن البشري المذهلة
وإذا ما أخذنا بقانون تورينج (1912-1954)، الذي يقرر أنّ "ذكاء الآلة يتأتى من خلال الحكم على أدائها"، فإنه لا ذكاء للآلة يتقدّم على ذكاء الإنسان الطبيعي، فالذكاء الآلي قاصر، لقصور أدائه المفتقر إلى المعرفة البديهية التي تتشكل في اللاوعي الإنساني!.. كذلك، تصبح فرضية كلٍّ من نيويل (1927-1992) وسيمون (1916-2001) غير ذات جدوى هنا، لأنها تؤكد أنّ المسألة تتعلق بنظام الرموز المادية الذي يفتقده الذكاء الاصطناعي في تمثّلات المعرفة الاجتماعية أو البديهية المعقدة، إذ إنّ هذا النظام الرمزي المادي المفقود هو وحده الذي "لديه الوسائل الضرورية والكافية للأفعال الذكية"، حسب هذه النظرية.
لعل النتيجة في هذا الأمر، هي ما تؤكده نظرية هربرت دريفوس (1929-2017)، التي تقول بأنّ "الخبرات البشرية تتشكل بشكل رمزي لا واعٍ، وتتطلب أن يكون لدى الإنسان شعور بالموقف حتى وإن لم يكن لديه المعرفة الكافية بالرموز". إذن، من أين سيأتي ذلك لجهاز لحاسوب الأبكم!؟
إنّ الذكاء الاصطناعي لقاصر جدًا أمام إمكانيات الكائن البشري المذهلة، التي تتناغم فيها المعرفة المادية بالاجتماعية الواقعية الملموسة بالبديهية الغامضة، وتتجلى فيها حالات الشعور بالمواقف المختلفة، فتتشكل عمليات استيعاب اللاوعي للمواقف، ومن ثم تحصل الخبرات والاستعدادات لقبول الخبرات المتنوعة وتعلّمها.
هذه هي نظرتنا المتفائلة في الموضوع. يضاف إليها ركيزة أخرى أساسية، وهي ما تقوله نظرية جودل (1906-1978)، فيما يُعرف بنظرية اللااكتمال في المنطق: "لا يمكن لأي نظام منطقي (مثل برنامج حاسوبي) إثبات جميع الجمل الصحيحة". هنا، استحالة منطقية حادة تقف حجر عثرة أمام طموحات الذكاء الاصطناعي المخيفة! إن صح التعبير. إنها نظرية علمية وضعت حدًا لما يمكن أن تفعله الآلات، لأنها وضعت حدًا لما يمكن استنتاجه حسابيًا، في حين أنها لم تضع حدودًا لما يمكن أن يفعله الإنسان بذكائه الطبيعي. الإنسان الذي يعتمد كثيرًا على المعرفة البديهية الغامضة، التي قد تخرج عن حدود المنطق المعروف.
إنّ المشكلة الحقيقة التي يحاول أن يعالجها الباحثون اليوم في مجال الذكاء الإنساني هي مشكلة كيفية تمثيل هذه المعرفة البديهية التي تتمثل في المخ البشري بشكل غير واعٍ. فهل يصل الإنسان إلى وسائل مادية لتمثيل هذا النوع من المعرفة للآلة الحاسوبية الصماء؟!.
لا مكان في المنظور التفاؤلي العلمي لما يُقال من احتمال خروج الآلة الذكية عن سيطرة الإنسان
من الواضح إذن، أنّ كثيرًا من الرؤية التشاؤمية حول تطورات الذكاء الاصطناعي ربما هي من قبيل المبالغة في التصوّر والتخوّف غير المبرر عمليًا، أو هي من قبيل البروباغاندا التقنية التي عادةً تظهر مع الاختراعات والمبتكرات التقنية الجديدة، التي تفتح مجالًا واسعًا للخيال والتوجس والشطح الإعلامي.
فعلى ما سبق بيانه نظريًا أو عمليًا في إحكام سيطرة الإنسان على الآلة، تبعد المخاوف والتوجسات، ويرتاح البال وتطمئن النفس بأنّ التطور التكنولوجي المعاصر يسير في خطى ثابتة تحت هيمنة الكائن البشري، وتوجيهاته، وإرشاداته وقراراته. فلا مكان حقيقة، في المنظور التفاؤلي العلمي هذا، لما يُقال من احتمال خروج الآلة الذكية عن سيطرة الإنسان، أو وجود وعي آلي خاص بالآلة الذكية، وكأنها إنسان له تفرده وجوهره المتميّز، شخصية آلية موازية، أو أرقى حضورًا من الإنسان نفسه!.
(خاص "عروبة 22")