قضايا العرب

معركة التعطيل في "الجنائية الدولية".. هل تُنقذ نتنياهو وجالانت؟

القاهرة - محمد بصل

المشاركة

تتدفق خلال أيام مذكرات من نحو 85 دولة ومؤسسة على المحكمة الجنائية الدولية بعدما تقرر السماح لها بتقديم ملاحظات مكتوبة حول قانونية الطلب المقدم من المدعي العام للمحكمة كريم خان لإصدار أوامر اعتقال ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف جالانت بسبب الجرائم ضد الإنسانية المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني في غزّة منذ أكتوبر/تشرين أول الماضي، بالإضافة إلى قادة حركة "حماس" على خلفية أحداث طوفان الأقصى.

معركة التعطيل في

تشهد هذه القضية مشاركة دولية واسعة النطاق، وربما تكون قياسية. فقائمة الدول والمنظمات التي سمحت لها المحكمة بتقديم الملاحظات تضم طيفًا واسعًا من الاتجاهات تأييدًا لحقوق الشعب الفلسطيني أو دفاعًا عن نتنياهو وجالانت، وهما الشخصان الأكثر تضررًا حال قبول المحكمة طلب المدعي وإصدار أمر بالاعتقال، فسوف تكون هذه المرة الأولى التي يصدر فيها مثل هذا الأمر بحق زعيم ووزير دفاع دولة محسوبة على العالم الغربي ومدعومة بشكل مباشر من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وألمانيا.

وحددت المحكمة تاريخ السادس من أغسطس/آب موعدًا أقصى لتلقي تلك الملاحظات، على أن تأتي في عشر صفحات على الأكثر.

ومن أبرز الدول التي سمحت المحكمة بتقديم ملاحظاتها تأييدًا لفلسطين ولإصدار أمر اعتقال نتنياهو وجالانت: "إسبانيا وجنوب أفريقيا والنرويج وأيرلندا وتشيلي والمكسيك وكولومبيا والبرازيل"، وعدد من المنظمات منها: "المركز الدولي للعدالة للفلسطينيين، ومحامون من أجل حقوق الإنسان الفلسطيني، والمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان".

ويبدو حضور الدول العربية والإسلامية ضعيفًا، فلم تتقدم إلا دولة فلسطين وجامعة الدول العربية وجيبوتي وجزر القمر وبنجلاديش.

ولم تقبل المحكمة – دون إبداء أسباب - طلبًا من حركة "حماس" قدّمه بالنيابة عنها المحامي الفرنسي جيل ديفير المعروف بمناصرته للقضية الفلسطينية أمام القضاء الدولي.

أما أبرز الدول التي سمحت المحكمة بتقديم ملاحظاتها دفاعًا عن قادة الاحتلال فهي: "الولايات المتحدة وألمانيا والأرجنتين والمجر"، ومنظمات صهيونية أوروبية ونقابة المحامين الإسرائيلية.

وفتحت بريطانيا الطريق للتقدّم بتلك الملاحظات، بعدما تقدّمت في العاشر من يونيو/حزيران الماضي بطلب لتعطيل وعرقلة إصدار أمر الاعتقال ضد نتنياهو وجالانت، بحجة أنّ المحكمة الجنائية الدولية لا تستطيع ممارسة اختصاصها على الرعايا الإسرائيليين، في ظل عدم استطاعة فلسطين ممارسة الاختصاص الجنائي على الرعايا الإسرائيليين بموجب اتفاقيات أوسلو.

وفي السابع والعشرين من الشهر ذاته أصدرت الدائرة التمهيدية بالمحكمة قرارًا بقبول الطلب "نظرًا للأهمية المحتملة لتلك المسألة"، وذلك دون التأثير على أي قرار مستقبلي من الدائرة بشأن أوامر الاعتقال، مستندةً إلى سلطتها التقديرية التي تسمح من خلالها لأي دولة أو منظمة أو أشخاص بتقديم ملاحظات ربما تفيدها في نظر القضية، مع اعتبار هذه الرخصة "عامة".

وبعد فوز حزب العمّال بزعامة كير ستامر وتشكيله الحكومة الجديدة، أعلنت بريطانيا سحبها طلب التدخل، في قرار يؤكد إحكام التنسيق السياسي والقانوني بين نتنياهو ورئيس الوزراء السابق ريشي سوناك. لكن هذا التراجع لم يغلق الباب الذي انفتح أمام تدخلات باقي مؤيدي حكومة الاحتلال، بعدما أجازت المحكمة للجميع تقديم ملاحظاتهم.

ويعكس تدخل بريطانيا ثم انسحابها حالة الفزع والغضب التي انتابت دوائر غربية واسعة من طلب اعتقال نتنياهو وجالانت، والتي جاءت معاكسة تمامًا للترحيب الكبير من العواصم الغربية بطلب مشابه تقدّم به كريم خان وقبلته المحكمة وأصدرت بموجبه أمر اعتقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مارس/آذار 2023، بل وإعلانها دعمها الكامل وزيادة تمويل المحكمة في مؤتمر عقده وزراء العدل الأوروبيون بلندن آنذاك.

وتبنى سياسيون وقانونيون أوروبيون على نطاق واسع في المحافل والمنتديات القانونية، اتجاهًا مماثلًا، زاعمين أنّ تدخل خان جاء مبكرًا ومن شأنه الإضرار بسمعة وجدية المحكمة الجنائية الدولية ذاتها، نظرًا لافتقارها للآليات الفاعلة التي تمكّنها من اعتقال أي زعيم سياسي، إلا بالتعاون مع دول كبرى قادرة على تنفيذ قرارات الاعتقال.

فالمحكمة لا تملك جيشًا أو جهاز شرطة أو آليات للتتبع، وتعتمد على الدول في القبض على المشتبه فيهم وتسليمهم إليها، مما يتطلب في الواقع لحظة استثنائية يتحقق فيها توازن تام بين الاعتبارات السياسية والالتزامات القانونية. أما الحل الآخر لبدء محاكمة المشتبه فيه فهو أن يمثل طواعية أمام المحكمة، وهو أمر شبه مستحيل.

وعلى ضوء ذلك؛ يرى البعض أنّ إصدار أمر اعتقال "مستحيل التنفيذ" ينال من سمعة المحكمة وجديتها، بينما يرى فريق آخر أنّ ملاحقة بوتين ونتنياهو وآخرين في السلطة أمر إيجابي ويُعلي من أسهم المحكمة ويدعم الشعور العام بأهمية دورها في استقصاء الحقيقة وإرساء العدالة.

تدور المعركة القانونية الآن حول طلبات الاعتقال فقط، وما إذا كان قانونيًا أن يصدر طلب اعتقال ضد نتنياهو وجالانت كمجرمين في حق الشعب الفلسطيني في الوقت الذي تعجز فيه دولة فلسطين عن فرض اختصاصها القضائي على أي مواطن إسرائيلي وفقًا لاتفاقيات أوسلو.

وترتبط المعركة بمكسب قانوني حصل عليه الشعب الفلسطيني عام 2021 عندما قررت المحكمة الجنائية الدولية اختصاصها بنظر جرائم الحرب التي ترتكب في الأراضي الفلسطينية، بناءً على طلب قدّمته المدعية العامة السابقة فاتو بنسودا ذكر أنّ هناك "أساسًا معقولًا للاعتقاد بأنّ جرائم حرب ارتُكبت في الضفة الغربية وغزّة والقدس الشرقية، يشتبه في ارتكابها من الجيش الإسرائيلي والجماعات الفلسطينية المسلّحة".

لكن المحكمة أشارت في ذلك القرار إلى أنها "ستدرس المزيد من الأسئلة حول الاختصاص القضائي إذا تم تقديم طلب أمر بالقبض أو الاستدعاء أو الاشتباه في متهم"، وبالتالي فهي لم تحسم سابقًا مدى إمكانية إصدار أمر ضد متهمين إسرائيليين محتملين.

وتركّز ملاحظات مؤيّدي فلسطين على أنّ الادعاء بعدم إمكانية اعتقال الإسرائيليين ينسف أساس اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية المدنيين في وقت الحرب، ويخالف ما استقرت عليه المحكمة من أنها تحكم وفق نظامها الأساسي وليس الاتفاقيات الثنائية، كما يهدر فرص الضحايا في تحقيق العدالة.

وسوف تؤثر نتيجة هذه المعركة على أمرين: أولهما عاجل يتمثّل في إصدار قرار الاعتقال، والثاني وهو الأهم المضيُّ قدمًا في التحقيقات والمحاكمة بالنسبة لقادة الاحتلال وقادة "حماس" معًا، مما يحوّلها إلى معركة تمس جوهر قضية غزّة نحو التصعيد وفتح مسارات جديدة أو الإخماد ومنع تصدي القضاء الدولي في شقه الجنائي لجرائم الإبادة الجماعية.

وتعكس المشاركة الدولية الواسعة الأهمية المتصاعدة للشق القانوني للقضية الفلسطينية والبناء التراكمي على المكاسب التي تبدو كخطوات صغيرة، فمن دون انضمام فلسطين إلى نظام الجنائية الدولية ثم قرار 2021 المشار إليه، لما كان نتنياهو يناقش في واشنطن ومع عواصم العالم فرص اعتقاله.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن