اقتصاد ومال

"الفساد الاقتصادي" في الوطن العربي.. هل مِن معنى؟!

محمد زاوي

المشاركة

"الفساد" مصطلح ميتافيزيقي، لأنّه لا يصف واقعًا ملموسًا وصفًا موضوعيًا دقيقًا، أو لنقل: إنّ هذا المصطلح يتغيى وصفًا وضعانيًا لا تاريخيًا، وكأنّ الواقع ثابتٌ يفسد أو يصلح، وما يحتاجه هو تدخل إرادات الإصلاح لنقله من حال إلى حال.

ينظر أصحاب هذا التصور إلى الحقيقة كجزءٍ من الشعور، كحقيقة ذاتية تبدأ بالذات وتنتهي إليها. لا يهُمهم الواقع الموضوعي والقواعد المتحكمة في سيرورته (التغيّر) وصيرورته (التحوّل)، بقدر ما يهمهم صلاح الإرادة. ينظرون في أنفسهم أكثر مما ينظرون في "قواعد التاريخ".

الواقع يكون تقدميًا كلما كان يسمح بتقدم قوى الإنتاج

إنّه، في التاريخ، لا وجود لظاهرة يمكن تسميتها بـ"الفساد"، وإنّما هو واقعٌ موضوعيٌ يطوي بعضه بعضًا، فيتهالك الأول ليخرج من صلبه الثاني. وعندما نتحدث عن رجعية واقع أو تأخره، فإنّنا نكون بصدد نظام اجتماعي متهالك يطلب تجاوزه بنقيض جديد. أمّا عندما نتحدث عن تقدمية نظام معيّن، فإنّنا نكون بصدد نظام اجتماعي ينسجم مع المنحى التقدمي للتاريخ.

ماذا يعني هذا الكلام في الاقتصاد السياسي؟ يعني أنّ الواقع يكون تقدميًا كلما كان يسمح بتقدم طبيعي لقوى الإنتاج، في حين يصبح رجعيًا إذا لم يكن يسمح بتقدمها من خلال علاقات إنتاجه.

هذا هو المعيار الذي يجب أن نقيس إليه الواقع الاقتصادي والسياسي للوطن العربي. فلا بد إذن من تحديد الواقع الاقتصادي للوطن العربي تحديدًا ملموسًا، وذلك هو وحده السبيل لمعرفة موقعنا مما يجري في عالم اليوم.

لا شك أنّ الاقتصادات العربية بنموذجها "الحديث" قد تشكلت في واقع استعماري، إمّا في نموذجيه القديم والجديد معًا كما هو الحال بالنسبة لمصر والمغرب وتونس، وإمّا في نموذجه الجديد فقط بالنسبة للدول حديثة التأسيس كقطر والإمارات والبحرين.

بالنسبة للنموذج الأول من الدول، فرض الاستعمار تبعيته الاقتصادية على مرحلتين: مرحلة تسريب الرأسمال الأجنبي إلى هذه الدول، ومرحلة إخضاعها التقسيم الدولي للعمل بعد استقلالها. أمّا بالنسبة للنموذج الثاني، فقد تأسّست دوله على أساس من التقسيم ذاته.

الرأسماليات الإمبريالية تفرض نموذجها التعليمي لأنّه يحول بين الجامعات العربية وبين تطوير قدراتها 

وحتى تتحدّد معالم هذه التبعية، سيكون لزامًا الحديث عن تجلياتها:

1 - الاستفادة من حصة من الثروات الطبيعية: وهو ما يتم - في مجال النفط والغاز مثلًا - إمّا من خلال استيلاء شركات أجنبية على حِصَص كبيرة من صفقات التنقيب أو التكرير أو باقي الصناعات الطاقية (نفطية أو غازية)، وإمّا بالحصول على حصص بعينها وحسب الطلب من المادة المصدرة، أو بفرض القدر الكافي من الإنتاج لخدمة رأسمال أجنبي بعينه في السوق الدولية. وكثيرًا ما تلجأ دول الرأسمال الإمبريالي إلى الابتزاز السياسي للحصول على حصتها المطلوبة من الثروة الطبيعية العربية.

2 - فرض المعاملات بالعملة الإمبريالية: وهذا أسلوبٌ إمبرياليٌ معروف، وقد سيطر على المبادلات النقدية الدولية بمجرد سيادة الدولار في السوق النقدية، حيث تكون الدول العربية مرغمة على التصدير والاستيراد بالعملة المسيطرة، مع الأخذ بعين الاعتبار الفرق الشاسع في القيمة النقدية بين هذه العملة وباقي العملات العربية (يوري بوبوف، دراسات في الاقتصاد السياسي: الإمبريالية والبلدان النامية). وهنا تصبح التبعية مضاعفة، والربح الإمبريالي مضاعفًا أيضًا؛ لأنّ المراكز الرأسمالية هي نفسها تحدد السعر، وهي نفسها تحدّد عملة التبادل.

3 - عرقلة مشاريع الاستقلال الاقتصادي الوطني: وهنا نتكلم عن المشاريع التي تؤمن حاجيات الدول العربية وشعوبها، بالإضافة إلى تلك التي تنمي قدراتها التبادلية والتنافسية في السوق الدولية. ومن الأمثلة التي يمكن ذكرها هنا: "تطوير القدرات التكنولوجية العربية" وما تحتاجه من تقدم في البحث العلمي، في حين أنّ الرأسماليات الإمبريالية تفرض نموذجها التعليمي (في إطار التقسيم الدولي للتعليم) نظرًا لأنّه يحول بين الجامعات العربية وبين تطوير قدراتها الوطنية على الابتكار والبحث العلمي (في إطار التقسيم الدولي للتكنولوجيا) (عزيز بلال، العوامل غير الاقتصادية للتنمية).

المؤسّسات المانحة للديون تفرض شروطًا مقابل ذلك

4 - الاستدراج لسياسة الديون الأجنبية: وهذه سياسة بدأتها الأبناك الرأسمالية قبل "التشكيل الاستعماري" القديم، وأعادت إنتاجها كسياسة رأسمالية "علمية" المؤسّسات الدولية الدائنة مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومؤسسات أخرى. ولم تكن هذه الديون محض ديون مالية تسترجَع بعد حين، ولكنها كانت وما زالت ديونًا بمضمون سياسي اجتماعي. فالمؤسّسات المانحة لهذه الديون تفرض شروطًا مقابل ذلك، ناهيك عن الفوائد التي تثقل هذه الديون وتتضاعف بسبب كل تأخير في قضائها. وهكذا فلا يمكن مثلًا فصل إملاءات صندوق النقد الدولي عن اتفاق واشنطن (1989) بمبادئه الأساسية: حرية المبادلات التجارية، خوصصة القطاع العام، رفع يد الدولة عن الاقتصاد (مصطفى فضل النقيب، الحداثة ومثقفو التبعية العربية الجديدة).

5 - فرض استثمارات الرأسمال الأجنبي: فليس هناك بلد عربي إلّا وفيه شركات أجنبية، تسمى شركات متعددة الجنسيات. وهي شركات موجودة في كافة دول العالم، إلّا أنّ فرقًا قائمًا بين وجودها في دول الوطن العربي ودولة كالصين مثلًا. في التجربة العربية، تفرض هذه الشركات وجودها واختياراتها وشروطها بحكم علاقات بين المراكز الرأسمالية ودول الجنوب الطرفية. أمّا في الصين فقد أصبحت الشركات الأجنبية أكثر انضباطا للدولة الصينية واختياراتها ومصالح رأسمالها، وكلما تعزز موقع الصين الاقتصادي عالميًا إلا وأصبحت اختيارات هذه الشركات أكثر انحسارًا من ذي قبل.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن