في هذا السياق، نقترح في هذا المقال تفسيرًا اقتصاديًا للحصيلة العربية في أولمبياد باريس بعيدًا عن نظريات المؤامرة ونظريات الهوية والتحيّز الغربي ضد العرب.
تفسير الفروق بين الأمم في سجل الميداليات المحصلة في الأولمبياد هو موضوع بحوث متزايدة في اقتصاديات الرياضة، وهي بحوثٌ تربط بين النتائج الرياضية قياسًا بعدد الميداليات، وبين العوامل الاقتصادية والاجتماعية التي تُفسّر تلك الفروق، كما تخبرنا لماذا هناك بلدان تحصل على ميداليات ذهب كثيرة وبلدان لا تحصل على أي ميدالية. وقد نُشرت العديد من المقالات في المجلات العلمية المتخصّصة في الاقتصاد إجابًة على هذا السؤال الذي يهمّ الكثيرين من المشاركين في الألعاب من حكومات وهيئات رياضية وجمهور واسع.
عندما يكون الناتج المحلي الإجمالي مرتفعًا فهذا يؤدي إلى مخرجات تعليمية وصحية وهياكل رياضية جيّدة
تزايد الاهتمام لدى الاقتصاديين بالعوامل المؤثرة على أداء البلدان المشاركة في المنافسات الرياضية الدولية، والنظرية الأساسية هي أنّ نجاح بلد ما في الميدان الرياضي أمرٌ مرتبطٌ بتوفره على عوامل نجاح اقتصادية وديمغرافية وجغرافية واجتماعية. ويُفسّر الناتج الإجمالي المحلي أو الدخل القومي مع حجم السكان 50 بالمئة من العوامل المفسّرة للفروق بين البلدان في عدد الميداليات في الأولمبياد حسب أغلب الدراسات المنشورة، والتي صدرت في الفترة الممتدة بين 1978 و2023. كما أنّ مستوى الفساد والتضخم وجغرافية البلد ودرجة الحرارة وعدد المشاركين، عواملٌ لها وزن في حصيلة الميداليات التي يُحقّقها كل بلد.
العامل الاقتصادي هو أهم عامل في هذا السياق، فعندما يكون الناتج المحلي الإجمالي مرتفعًا فهذا يؤدي إلى مخرجات تعليمية وصحية جيّدة وهياكل رياضية جيّدة والمزيد من الموارد التي تُنفق على الرياضات حيث يرتبط النجاح الرياضي لأي بلد بمستوى الموارد الاقتصادية المتوفرة. وعندما يتوفر المزيد من الوقت للترفيه بعد العمل والمزيد من المال الموجّه للرياضة سيؤدي ذلك بالمزيد من السكان للمشاركة في الأنشطة الرياضية. والأمم الغنية تُسهم في تقديم تسهيلات رياضية أفضل لنخبتها الرياضية ومهارات فنية، وعلوم الرياضة فيها تدعم الخدمات المقدّمة التي تحتاجها النخب الرياضية للمشاركة في المنافسات الدولية.
وعندما يزداد البلد غنى يكون لديه أفضل الرياضيين، والعامل الحاسم هنا هو كيف يتم إنفاق المال العام على الرياضية، وبصفة عامة كلما كان الدخل القومي للبلد محسوبًا برقم الناتج المحلي الإجمالي كبيرًا، كلما كان عدد الميداليات المحصلة في الألعاب الأولمبية كبيرًا حسب دراسة الباحث أمارتيا سين التي صدرت في 2021، والدليل أنّه في ألعاب طوكيو 2020، حصت البلدان العشرة الأوائل 54 بالمئة من الميداليات، كما أنّ ثمانية بلدان من العشرة كانت بلدانًا ذات الدخول المرتفعة.
التضخم عاملٌ مهمٌ في خلق فروق في عدد الميداليات بين الأمم الفقيرة والغنية ومنظومة الفساد تؤثر سلبًا على النتائج
عدد السكان الناشطين هو عامل ديمغرافي مهمٌ أيضًا، فالبلد الذي يتوفر على مئات ملايين السكان القادرين على النشاط يكون فيه فرص لاكتشاف مواهب رياضية واختيارهم للمشاركة في المنافسات الدولية. فالبلدان ذات السكان الكثر هي أفضل من حيث عدد الميداليات من البلدان قليلة السكان حيث الميزات الجسدية المناسبة تكون متوفرة في العدد الكبير من السكان. لقد تمّ تبيان أنّ حجم السكان له أثر على عدد الميداليات المحصلة في الألعاب الأولمبية (أبحاث فوستر نموذجًا، 2010) وهذا واضحٌ في حالة الصين مع أولمبياد 2024 حيث احتلت المرتبة الثانية.
التضخم عاملٌ مهمٌ في خلق فروق في عدد الميداليات بين الأمم الفقيرة والغنية. فارتفاع سعر القطن يؤدي إلى ارتفاع سعر الألبسة الرياضية ممّا يُشكّل ضغطًا على الأمم الفقيرة في الحصول على تلك المنتجات الرياضية التي يُعتبر القطن من مدخلات إنتاجها، كما أنّ التضخم النقدي وقيمة العملة يؤثران على مداخيل الرياضيين حيث يؤثر سعر صرف العملات على عقود اللاعبين. إنّ العديد من الرياضيين يمضون عقودًا بعملات مختلفة عن عملاتهم المحلية حيث يرسلون أموالًا إلى البلد المحلي لعائلاتهم أو من أجل الاستثمار ويتأثر ذلك بالسعر الرسمي المتدني أساسًا.
اتضح أنّ الفساد هو عاملٌ مؤثرٌ على أداء البلدان في الألعاب الأولمبية، لأنّ النزاهة مُهمّة في البيئة الرياضية. منظومة الفساد تؤثر سلبًا على النتائج، فالرياضيون الذين يستخدمون المنشطات لا يحصلون على ميداليات أو يُحرمون منها لاحقًا، كما أنّ حجم الفريق المشارك في الأولمبياد له دورٌ في رفع الحظوظ في الحصول على الميداليات.
العوامل الاقتصادية والديمغرافية السابقة تفسّر حصيلة العرب سواء في أولمبياد 2020 أو أولمبياد 2024، فالبلدان العربية المشاركة تنقسم من حيث الدخل إلى دول ذات دخل مرتفع (البحرين وقطر) وبلدان ذات دخل متوسط (مصر، الجزائر، المغرب وتونس والأردن)، وبالتالي فالموارد الاقتصادية التي توفرها تلك البلدان العربية متوسطة الدخل، تبقى متواضعة مقارنةً بحاجات النخبة الرياضية العربية المشاركة، ومقارنةً على الخصوص بالتسهيلات التي تحصل عليها النخبة الرياضية في البلدان الغربية التي حصدت أغلب الميداليات.
يحتاج العرب الرفع من نِسب النمو في إطار اقتصاد متنوّع حتى يتم توفير التسهيلات التي تحتاجها النخب الرياضية العربية
إنّ حجم السكان في العالم العربي الذي يبلغ 470 مليونًا في 2024، قد يُفسّر الجزء الآخر من الحصيلة المتواضعة، حيث إنّ أكبر بلد عربي من حيث حجم السكان، أي مصر الذي بلغ التعداد فيه 110 مليون نسمة، حصلت بالكاد على ميدالية ذهبية واحدة، وهذا معطى يُفسّر لماذا البلدان العربية المشاركة ليس لديها حجم كبير من المشاركين الموهوبين الذين يدخلون في عداد النخب الرياضية العالمية، ما دام الوعاء الديمغرافي الذي يتم منه الانتقاء والاختيار يبقى محدودًا كميًا.
لكي نرفع من عدد الميداليات الذهبية في الألعاب الأولمبية القادمة، يحتاج العرب أن يرفعوا من رقم الناتج المحلي الإجمالي، أي الرفع من حجم الدخل القومي وذلك بزيادة إنتاج السلع والخدمات وبيعها، وبالتالي الرفع من نِسب النمو الاقتصادي في كل سنة في إطار اقتصاد متنوّع لا يتأثر بتقلبات سوق واحدة، أي سوق النفط والغاز، حتى يتم توفير التسهيلات التي تحتاجها النخب الرياضية العربية. إذ إنّ عدد الميداليات الذهبية المحصلة هو دليلٌ على الرخاء الاقتصادي في المحصلة.
(خاص "عروبة 22")