بصمات

الإصلاحية والعروبة

شهدت ثمانينات القرن التاسع عشر أحداثًا كان لها الأثر في بروز تيارات فكرية جديدة، فبعد الاندفاع التحديثي في حقبة التنظيمات التي بدأت مع خط كلخانة عام 1839، الذي نصّ على المساواة بين الرعايا، والذي تكرس في فرمان التنظيمات الخيرية عام 1856، عرفت المنطقة العربية احتلال تونس عام 1881 من جانب الفرنسيين ومصر عام 1882 من جانب الانكليز، الأمر الذي طرح إشكاليات غير مسبوقة أمام المفكرين والعاملين في الشأن العام.

الإصلاحية والعروبة

وقد تبدّلت الظروف والمهمات. ففي خضم التنظيمات الذي نسميه بالعربية عصر النهضة، كانت الإشكالية الرئيسية: ما الذي يمكننا أن نأخذه عن أوروبا، ولكن بعد الاحتلالات وخصوصًا في مصر أصبحت المسالة متعددة الوجوه، ففي الثمانينيات كان رد الفعل قويًا بالدعوة إلى وحدة المسلمين أمام خطر الاستعمار، وقد عبّرت مجلة "العروة الوثقى" التي صدرت في عدّة أعداد عام 1884 في باريس عن هذه الوجهة. إلا أنّ الإمام محمد عبده الذي كان يحرر المجلة مع الامام جمال الدين الأفغاني، أدرك أنّ الأمر يكون بإصلاح امر المسلمين بالتعليم وإصلاح مؤسساتهم كالأزهر والأوقاف، في الوقت نفسه الذي عمل فيه على تجديد التفكير الإسلامي.

حدثت تطورات غيّرت خريطة المشرق العربي في بداية القرن العشرين الأمر الذي أدى إلى تبلور القومية العربية

إن أحد جوانب تفكير محمد عبده هي أنّ الإسلام قد تأخر حين لم يعد العرب يقودون المسلمين. وقد لا يكون هذا الرأي دقيقًا من الناحية التاريخية، إلا أنه يعكس الفكرة التالية وهي: أنّ نهوض العرب وإصلاح أحوالهم سيؤدي إلى نهوض المسلمين. لقد عمل الامام محمد عبده على إنشاء جمعية إحياء العلوم العربية، وقام بتحقيق ونشر عدد من كتب التراث، منها: أسرار البلاغة للجرجاني، وشرح نهج البلاغة وشرح مقامات الحريري، كما قام الامام محمد عبده بزيارات إلى المغرب العربي، وكانت زيارته المبكرة إلى تونس عام 1884 حيث التقى بعدد من العلماء وقد أمضى فيها قرابة الأسبوعين. أما زيارته الثانية المتأخرة فكانت إلى الجزائر عام 1902، وقد التقى بعلمائها. والزيارتان تدلان على إحدى جوانب تفكيره العروبي إذا جاز التعبير مع الأخذ بالاعتبار أنّ البلدين كانا واقعين تحت الاحتلال الفرنسي.

إنّ أثر محمد عبده في البلدين كان ولا يزال موضوع عديد من الدراسات وخصوصًا تأثير محمد عبده على الشيخ عبد الحميد بن باديس رئيس جمعية العلماء المسلمين بالجزائر. وهو الذي اشتهر بقوله: "إنّ هذا الشعب له لغته وهي العربية ودينه هو الإسلام ووطنه هو الجزائر، وتأثير الإصلاحية على علماء تونس نجد مثالًا عليه في الشيخ الطاهر بن عاشور الذي صرف اهتمامه بالتأليف في المسائل الفقهية لا يحجب اهتمامه بالتراث الأدبي واللغوي العربيين. فقد كتب في أصول الانشاء والخطابة، وموجز البلاغة، وحقق ونشر ديوان بشار بن برد.

حدثت تطورات غيّرت خريطة المشرق العربي، في بداية القرن العشرين مع الانقلاب الدستوري عام 1908، وإزاحة السلطان عبد الحميد الثاني في السنة التالية، واستلام حزب الاتحاد والترقي للسلطة في استامبول، وإظهاره سياسة طورانية متعصبة للقومية التركية، الأمر الذي أدى إلى تبلور القومية العربية والتي مثلتها آنذاك جمعية العربية الفتاة، ثم دخول تركيا الحرب العالمية إلى جانب المحور، وقيام الثورة العربية الكبرى في الحجاز عام 1916.

كان الشيخ محمد رشيد رضا تلميذًا للإمام محمد عبده، أسس صحيفة المنار، التي استمرت في الصدور حتى وفاته عام 1935، والتي كان لها انتشار واسع في بلدان العالم العربي والإسلامي. وله مؤلفات معروفة مثل: تفسير المنار و الوحي المحمدي و الخلافة عدا عن مقالاته في المنار.

إلا أنّ دور رشيد رضا في الأحداث الكبرى التي عاشها، قلما سُلّط الضوء عليه. لقد وقف إلى جانب الثورة العربية. وأعلن تأييده لها منذ انطلاقتها، ثم أصبح رئيسًا للمؤتمر السوري إبان عهد الحكومة العربية في دمشق. وفي ظل رئاسته صيغ دستور الحكومة العربية الذي لم يقَر بسبب الغزو الفرنسي لسوريا ومعركة ميسلون في 24 تموز 1920.

في دراسة حديثة للباحثة اليزابيث تومبسون: كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب، والعنوان الفرعي هو: المؤتمر السوري في عام 1920 وتدمير التحالف التاريخي الليبرالي- الإسلامي فيه، تبين الباحثة أنّ هذا الدستور هو أكثر الدساتير العربية ليبراليةً وتقدّمًا. وقد جاء في التلخيص: "أعلن المؤتمر السوري استقلال سورية وتوّج فيصل بن الحسين ملكًا"، ملكية مدنية تمثيلية. وأشرف محمد رشيد رضا، على صياغة دستور أرسى أول ديمقراطية عربية، تضمن حقوقًا متساوية لجميع المواطنين، بمن فيهم غير المسلمين. لكن في يوليو/تموز 1920، غزا الفرنسيون سورية "وسحقوا الدولة السورية". وكان محمد رشيد رضا نائبًا لرئيس المؤتمر السوري الفلسطيني الذي عقد في جنيڤ وكان أول رد فعل على الانتداب على سورية وفلسطين.

وما يهمنا أنّ رشيد رضا الذي تغفل الدراسات حوله هذا الجانب من نشاطه السياسي العروبي، كان إصلاحيًا بارزًا وعروبيًا تشهد جهوده انفتاحًا على الحركة العربية والمشاركة فيها.

الإصلاحية أسهمت في نشر تراث العربية وعبّرت عن انفتاح أبرز روادها على القيم الحديثة

يبقى أن نشير إلى الشيخ عبد الرحمن الكواكبي الحلبي وناشر الصحف وصاحب كتاب: طبائع الاستبداد، الذي شرح فيه مخاطر الاستبداد على الأمّة، وقد دفع حياته ثمنًا لمواقفه فمات مسمومًا عام 1902 في القاهرة، في كتابه: أم القرى، الذي يعبّر فيه عن نزعته العربية، عبّر فيه عن قناعته بأنّ نهضة المسلمين تكون بعودة الدور القيادي إلى العرب، لهذا فإنه يتخيل اجتماعًا في مكة المكرمة لمناقشة قضايا المسلمين. وقد كان في تفكيره عودة الخلافة إلى العرب.

نشأت الإصلاحية في كنف العروبة، بل أسهمت في نشر تراث العربية وعبّرت عن انفتاح أبرز روادها على القيم الحديثة وأسهمت في نشوء الوطنية والكفاح ضد المستعمر وخصوصًا في بلدان المغرب العربي.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن