اقتصاد ومال

التحوّل الرقمي ومشكلة البطالة في العالم العربي!

يعيش العالم اليوم على أعتاب ثورةٍ صناعيةٍ رابعةٍ، مصدرها البيانات وقاطرتها التحوّل الرقمي، من الذكاء الاصطناعي الذي يكتب ويحلّل الأسواق المالية، إلى "الأتمتة" التي تُدير خطوط الإنتاج والمستودعات. وتتغلغل التقنيّة في كلّ شرايين الاقتصاد العالمي، وفي قلب هذه الموجة العاتية، أثّر التحوّل الرقمي على البطالة، ولفهم هذا الأثر يجب أولًا أن نفهم آليات عملها، إذ يقف محرّكان رئيسيّان وراء هذا التغيير، وهما الأتمتة والذكاء الاصطناعي. ويأخذ الذكاء الاصطناعي الأمر إلى مستوى أعلى، فهو لا يقتصر على المهامّ الروتينيّة، بل يمتدّ إلى المهام التي تتطلّب تحليلًا واستنتاجًا وحتّى إبداعًا. ويمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي تحليل كميّات هائلة من البيانات الطبّية للمساعدة في عملية تشخيص المشاكل، أو إدارة المحافظ الاستثمارية، أو تحليل سلوك المستهلكين لتقديم توصيات تسويقيّة مُتخصّصة.

التحوّل الرقمي ومشكلة البطالة في العالم العربي!

يشير تقرير مستقبل الوظائف الصادر عن "المنتدى الاقتصادي العالمي"، إلى أنّه قد يتمّ إزاحة أكثر من 85 مليون وظيفة على مستوى العالم بسبب هذا التحوّل في تقسيم العمل بين البشر والآلات.

الهدف ليس فقط تقليل البطالة بل الانتقال إلى التوطين النوعي في خلق الوظائف المستقبليّة

ففي التقرير نفسه، يتوقّع المنتدى الاقتصادي العالمي ظهور 97 مليون وظيفة جديدة، ممّا يعني أنّ المحصّلة النهائية قد تكون إيجابيةً، وأنّ هذه الوظائف الجديدة تتمحور حول الاقتصاد الرقمي وتشمل أثر التحوّل الرقمي على البطالة وهو ليس مجرّد إحلال، بل إعادة تشكيل جذريّة لسوق العمل، حيث يتمّ استبدال المهارات الروتينيّة بمهارات تحليلية وإبداعية وتقنية متقدّمة. ويُعتبر عدد مُهمّ من الدول العربية من أسرع دول العالم تبنّيًا للتحوّل الرقمي الذي ليس خيارًا، بل هو حجر زاوية في تحقيق مستهدفات رؤية 2030 لتنويع الاقتصاد وتقليل الاعتماد على النفط.

ويؤدّي التحوّل الرقمي في القطاعَيْن الحكومي والخاص، في أتمتة الخدمات، والخدمات المصرفية الرقمية، والمصانع الذكية، إلى زيادة الكفاءة لكنّه يضع ضغطًا على الوظائف التقليدية التي كانت تشغلها العمالة قليلة المهارة. كما يخلق هذا التحوّل طلبًا هائلًا على الكفاءات الوطنية المتخصّصة في المجالات الرقمية الحديثة.

ومن المهم التأكيد أنّ الهدف ليس فقط تقليل البطالة، بل الانتقال من التوظيف إلى التوطين النوعي في خلق الوظائف المستقبليّة، وتكمن المشكلة الحقيقية في جوهر هذا التحوّل في فجوة المهارات، وهي الفجوة بين المهارات التي يمتلكها الباحثون، والمهارات التي تتطلّبها الوظائف الجديدة التي يخلقها الاقتصاد الرقمي، ولا يكفي أن تكون هناك فرص عمل جديدة إذا لم يكن هناك من يمتلك المهارات اللازمة لشغلها.

تقليل الفجوة التكنولوجية يبقي الدول العربية في سوق المنافسة في ظلّ التكتلات الاقتصادية الكبرى

ومن الجدير بالإشارة إلى أنّه لم يعد امتلاك شهادة جامعيّة كافيًا لرفع مستوى الأداء، بل أصبحت المهارات المطلوبة اليوم التي تشمل محو الأمّية الرقمية، هي القدرة الأساسية على استخدام المنصّات الرقمية بفعّالية، وأنّ التفكير النقدي وحلّ المشكلات هما القدرة على تحليل المواقف المعقّدة وإيجاد حلول مبتكرة، وأنّ تحليل البيانات هو فهم أساسيّات التعامل مع البيانات واستخلاص المعنى منها. كما أنّ الإبداع والابتكار يجسدان القدرة على التفكير خارج الصندوق وتطوير أفكار جديدة، والتعليم المستمر والقدرة على اكتساب مهارات جديدة باستمرار لمواكبة التغيّرات المتطوّرة، استنادًا إلى التقرير الاقتصادي العربي الموحّد 2024.

تلعب التقنيات الرقمية دورًا مهمًا في دفع النموّ وتطوير جميع القطاعات، من خلال تحسين الإنتاجية وتخفيض التكلفة وتعزيز القدرة التنافسية وتحقيق مرونة أفضل وكفاءة أكثر في مختلف المجالات والعمليات الإنتاجية. ومن شأن اعتماد هذه التقنيات، تحقيق منافع اقتصادية واجتماعية هامّة لمختلف الدول العربية التي شهد عدد منها تطوّرًا سريعًا وملحوظًا فيما يتعلق بالبنية التحتية الرقمية واستخدام التقنيات الرقمية، التي باتت أمرًا ضروريًا ليس فقط لمواكبة التطوّرات العالمية وتفادي تعميق الفجوة مع الدول المتقدّمة، بل أيضًا لمواجهة التحدّيات التي تجابهها هذه الدول لا سيما تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة وتخفيض مستويات الفقر والبطالة.

التكامل بين الدول العربية خطوة مهمة نحو تطوير قدرات عربية تنافسية عالية التقنية

وفي الختام، لا يكمن التحدّي الحقيقي للدول العربية في مجرّد جلب التكنولوجيا ذاتها والانتفاع بها، وإنّما في تطويرها بالقدر الذي يُمَكِّنُ هذه الدول من تنمية قدراتها الاقتصادية وتجنّب آثارها الجانبية السلبية وتقليل الفجوة بينها وبين الدول المتقدّمة، حتّى يتسنّى لها البقاء في سوق المنافسة على المستويَيْن المحلّي والدولي، في ظلّ التكتلات الاقتصادية بين الدول الصناعية الكبرى.

ويُمثّل التعاون والتكامل بين الدول العربية في مجالات تطوير البنية التحتية الرقمية، وتطوير التطبيقات والبرمجيّات والأجهزة، والابتكار التقني والبحث العلمي في مجال التقنيات المتقدّمة، خطوةً مهمةً نحو تطوير قدرات عربية تنافسية عالية التقنية وذات مستوى متطوّر، وخلق فرص نموّ جديدة وواعدة، استنادًا إلى الميزات النسبية والتنافسية. وفي هذا السياق، فإنّ جميع الفرص متاحة لكلّ الدول العربية، في ضوء توافر القدرات البشرية العالية وفي ظلّ توافر الموارد المالية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن