هكذا استمرّ الفرد يُعرف بقبيلته، ويُحاسَب على أفعال طائفته، لا يجرؤ على التصرّف خارج إطار مقدّساتها ومحرّماتها. وفي أفضل الأحوال، صار لبنةً في جدار مُصمت يقف فوقه الزعيم، المفترض أنّه وطني. هكذا ينبثق الإنسان العربي بيولوجيًا من رحم الأم، لكنّه لم ينبثق سيكولوجيًا من رحم الحرية، ولم يُصبح بعد صوتًا مسموعًا، يملك من ممكنات التأثير ولو أثر الفراشة.
أغلب الثوّار في التاريخ الإسلامي خرجوا دفاعًا عن إيمانهم كمسلمين وليس لدوافع تحرّرية دفاعًا عن إرادتهم كمواطنين
يحدث ذلك ليس لأنّ الإسلام مطبوع بجوهرٍ شموليّ يجعل منه قيدًا على الحرية، كما ذهب مستشرقون غربيّون ومفكرون عرب متعالون، تجاهلوا أنّ الخطاب القرآني موجّه إلى الإنسان كفردٍ، سواء على صعيد العقيدة أو العبادة، وأنّه يؤسّس لنوعٍ من الفردية الروحية / الحرية الوجودية. بل حدث لأن تديّننا الموروث، النازع إلى الجبر والتسلّط والخرافة لم يشهد مراجعةً جذريةً، ولأنّ السلطات الحاكمة: ولاية، خلافة، سلطنة، ملكية، وجمهورية، لم تحاول تأسيس تلك الحرية الوجودية في نظام سياسي معتبر، فلم يعرف تاريخنا مفهوم الحرية المدنيّة الذي أنتج مفاهيم كالعِلمانية، والفردانية، والليبيرالية، بلّ ظلّ قاصرًا على الحرية بالمعنى الأنطولوجي، الذي يدور في فلك العلاقة بين الله والإنسان، والذي تمّ تداوله في المعجم القرآني، وتجادلت حوله الفرق الكلاميّة خصوصًا: المعتزلة والجهمية والأشاعرة. أو على المعنى الاجتماعي الذي دار في فلك الاستعمال الفقهي للحرية كحالةٍ قانونيةٍ مقابلةٍ للعبوديّة، حيث الإنسان الحرّ ليس هو ذلك الشخص الذي امتلك فرديّته ويحاول من خلالها أن يصوغ عالمه ويسيطر على مصيره، بل هو فقط الشخص غير المملوك جسديًا لغيره من الناس.
ومن ثم لم يُنْتِجْ التاريخ الإسلامي متمرّدين ضدّ القهر الاجتماعي والسياسي اللهمَّ فيما ندر، فأغلب الثوّار والمتمرّدين خرجوا لدوافع عقدية دفاعًا عن إيمانهم كمسلمين، وليس لدوافع تحرّرية دفاعًا عن إرادتهم كمواطنين. وهنا يتعيّن علينا ملاحظة كيف جرى الفصل دومًا بين حقّ الإنسان في اختيار عقيدته الدينية، وبين حقّه في أن يكون مواطنًا حرًّا يمارس دوره ويتحمّل مسؤولياته عن الجماعة السياسية / الدولة / الأمّة / الوطن. بلغةٍ أكثر تحديدًا، ظلّت الحرية الأنطولوجية في الرؤية القرآنية للوجود محض إمكانيّة مُعطّلة، غير ملهمةٍ إيديولوجيًا ولا مُحفّزة تنظيميًا لأي حركة اجتماعية على الأرض، حيث كان هناك دومًا من لا يريد، أو لا يستطيع أو كليْهما.
الحرية ضرورة للدولة كي تتجاوز فسادها وتخلّفها وللفرد كي يحرّر إيمانه ويطوّر قناعاته
والحقّ أنّ غياب الحرية، طالما نتحدّث من منظور النقد التاريخي، كان أمرًا طبيعيًا في عصور الإسلام الأولى، فالمفهوم لم يكن قد تبلور فلسفيًا ولا تجسّد سياسيًا في أي بقعة جغرافية، حيث كانت الأمم والحضارات في الاستبداد سواء. أمّا العامل الحاسم في قدرة أيّ منها على النهوض والتقدّم فيتمثّل في قدرتها على التوحّد سواء حول فكرةٍ مُلهمةٍ كالعقيدة الدينية أو حول شخصية قيادية من طراز الأبطال والمحرّرين. أمّا في ظلّ تعقيدات المجتمع الحديث، بعد أن صارت الوسائط العمليّة أهمّ من الأفكار الملهمة، والتنظيمات المؤسّسية أجدى من الشخصيات القائدة، فلم تعد وطأة الاستبداد محتملةً، وباتت الحرية ضرورةً للدولة، كي تتجاوز فسادها وتخلّفها، وللفرد كي يحرّر إيمانه ويطوّر قناعاته.
وهنا يمكن الادّعاء بأمرَيْن:
الأول، أنّ طبيعة النظام السياسي هي التي صنعت المزاج الديني طوال التاريخ الإسلامي، إذ لم تكن هناك مؤسّسة بطريركية توازي الكنيسة الكاثوليكية، تحتكر ممارسة الدين، وتمارس الوصاية باسمه على المجتمع والدولة، بل إنّ العكس هو ما حدث تقريبًا، حيث مارس أهل الحكم وصايتهم على رجال الدين، وهي عملية قلقة متأرجحة، إذ استقطب بعض الحكام فقهاء ومتكلمين، منحوهم الرعاية الشخصية وناصروا مذاهبهم، قبل أن يتخلّوا عنهم ويقوموا بسجنهم. وفي الحقبة الحديثة، أنشأت الدولة الوطنية لهم هيئات رسمية، سواء كانت تعليمية أو فقهية، خصّصت لها ريعًا يُنفق عليها في مقابل خضوعها الكامل لها، وتبريرها الدائم لتوجّهاتها.
إذا تجاوزنا آفة الاستبداد السياسي فسوف نتجاوز بالتبعيّة مأزق التطرّف الديني
والثاني، أنّ مفتاح الإصلاح الديني العربي ليس بأيدي المؤسّسات الدينية، المحافِظة بطبيعتها، بل رهن إصلاح مؤسّسات الدولة ككل، فإذا تجاوزنا آفة الاستبداد السياسي فسوف نتجاوز بالتبعيّة مأزق التطرّف الديني، إذ من رحم المجتمع الحرّ يولد الإنسان المُستنير، القادر على إعمال عقله والاختيار لنفسه، ومن ثم الارتقاء بمستوى حاجاته وأسئلته الدينية، وعندها إمّا أن يرتقي رجال الدين ومؤسّساته إلى مستوى وعيه الجديد أو أن يخرجوا من سباق الفكر والوجود.
(خاص "عروبة 22")