يحاول نتنياهو إدخال تغييرات جذرية على النظام القضائي، لأنه يعتبر مع تكتّله اليميني المتشدّد الحاكم أنّ المحكمة العليا تميل إلى اليسار ونخبوية، وتتدخل بصورة كبيرة في الشؤون السياسية، كما تقدّم غالبًا حقوق الأقليات على المصالح الوطنية وهو اتهام أحزاب اليمين المتطرّف المتكرّر لها. وتحاول حكومة نتانياهو منذ عودتها للسلطة الحدّ من سلطات هذه المحكمة في إصدار أحكام ضدّ السلطتين التشريعية والتنفيذية، ومنح النواب سلطة أكبر في تعيين القضاة، في مواجهة رفض للمعارضة وأحزاب الوسط واليسار.
الحقيقة أنّ هذا الانقسام بين النخب السياسية والحزبية الإسرائيلية، وهذا الرفض من قبل تيار واسع منها لهذه المقترحات، انعكس على الشارع، فشهدت البلاد مظاهرات واسعة طوال الأشهر الأربعة الماضية ضدّ مشروع نتنياهو لتقييد بعض صلاحيات المحكمة العليا، وتظاهر مئات الآلاف من الإسرائيليين دون كلل أو ملل دفاعًا عن استقلال القضاء ورفضًا لقراراته، وأعلن الأطباء إضرابهم عن العمل، كما أعلن قادة نقابيين أنهم قد يضطرون إلى إعلان إضراب عام في البلاد في حال طُبّق هذا القانون خاصة بعد أن فشلت المحاولات التي قام بها رئيس الاتحاد العام للنقابات العمالية (هستدروت) التوسّط بين الحكومة والمعارضة للتوصّل إلى توافق.
ورغم كل هذه الاحتجاجات، أقرّ الكنيست الإسرائيلي في نهاية شهر يوليو الماضي القانون بأغلبية 64 صوتًا من بين 120 هم كلّ أعضاء الكنيست، ومن دون وجود أي أصوات معارضة، بسبب انسحابها من جلسة التصويت احتجاجًا على القرار الذي دعمه التحالف اليميني المتطرف الحاكم.
خطاب نتنياهو جاء على طريقة كثير من حكّام العالم الثالث حين يغلّفون قراراتهم غير الديمقراطية بكلام عن الديمقراطية
ويمكن القول إن جوهر القانون الجديد الذي عرف بقانون "الحدّ من المعقولية"، هو واحد من 8 مشاريع قوانين طرحتها الحكومة في إطار ما سمّته "إحداث التوازن بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية" وسيترتّب عليه منع المحاكم الإسرائيلية وعلى رأسها المحكمة العليا من تطبيق ما يُعرف باسم "معيار المعقولية" على القرارات التي يتخذها المسؤولون المنتخبون، وهذا يعني الحدّ من قدرتها على إلغاء قرارات حكومية، كما جرى من قبل مع قرارات لحكومة نتنياهو نفسه.
المفارقة أنّ خطاب رئيس الحكومة الإسرائيلية جاء على طريقة كثير من حكّام العالم الثالث حين يغلّفون قراراتهم غير الديمقراطية بكلام عن الديمقراطية فقال: إن إقرار الكنيست بندًا رئيسيًا في خطة التعديلات القضائية مثّل "خطوة ديمقراطية ضرورية".
بالمقابل رفع ممثلون عن المعارضة والمجتمع المدني استئنافًا أمام المحكمة العليا لإلغاء قرار الكنيست، وهي فرصة لن تكون متاحة في حال تنفيذ هذا القانون في الواقع، بما يعني أنّ الإلغاء المتوقع للقانون من قبل المحكمة العليا سيؤدي إلى دخول البلاد في حالة جديدة من الاستقطاب والانقسام الداخلي.
الأخطار الجديدة
التظاهرات المدنية التي تجري في إسرائيل وحالات الاستقطاب السياسي بين الحكومة والمعارضة أمر يحدث في كل النظم السياسية، ديمقراطية أو غير ديمقراطية، ولكن الجديد الذي شهدته الدولة العبرية مؤخرًا تمثل في أمرين مهمّين:
الأول؛ أنّ هذا الانقسام طال مؤسسات الدولة الإسرائيلية خاصة القضاء حتى وصل إلى قوات الاحتياط داخل الجيش الإسرائيلي وبات يهدّد المؤسسة العسكرية ككل. ويكفي أنّ هيئة البث الإسرائيلية ذكرت أنّ المئات من طياري وجنود الاحتياط هددوا برفض الخدمة بعد إقرار قانون التغييرات القضائية، كما أعلن ٤٠ طيارًا احتياطيًا من طياري النخبة، ولأول مرة منذ تأسيس إسرائيل، عدم مشاركتهم في التدريبات العسكرية احتجاجًا على إصدار القانون، كما حذر رئيس الأركان نتنياهو من تمدّد ظاهرة العصيان من قوات الاحتياط إلى الجيش النظامي، خاصةً بعد إعلان جنود وضباط احتياط في وحدة رئاسة الأركان أنهم يرفضون الخدمة في "نظام ديكتاتوري".
الانقسام الإسرائيلي الحالي هو صراع داخلي عميق على "أسس الدولة"
يقينًا، إنّ خطر تمرّد قطاعات من الجيش وعدم انصياعها للأوامر العسكرية لم تعرفه إسرائيل من قبل، فخلافات السياسة ظلّت محصورة بين النخب الحزبية وبين العلمانيين والمتشددين الدينيين، ولم تصل إلى مؤسسات الدولة سواء القضاء أو الشرطة أو الجيش، بل إنّ الأخير ظلّ يمثّل مصدر توافق وفخر بين الإسرائيليين، وأيّ جرائم يرتكبها جنوده بحق الفلسطينيين ظلّت محلّ حصانة مجتمعية قبل أن تكون قضائية.
ولذا فإنّ خطر وجود تمرّد أو خلخلة داخل الجيش الإسرائيلي سيزداد في حال نُفّذ القانون في أرض الواقع، أما في حال قبول المحكمة العليا الاستئناف الذي قدّمته المعارضة وإلغائها للقانون، فإنّ هذا سيعني استنفارًا جديدًا لقوى اليمين المتطرّف وتصعيدها في مواجهه القوى اليسارية والليبرالية الأخرى، وأيضًا تصاعد دور القوى الأمنية الخاصة التي يقودها وزير الأمن الداخلي بن غفير في الداخل والخارج (تجاه الفلسطينيين).
ستحاول الحكومة الحالية أن تنقل المخاطر الداخلية إلى الخارج، وتحديدًا بتوسيع نطاق المواجهة بحق الشعب الفلسطيني كما جرى مرّات سابقة، ولكن هذه المرة لن تحقّق النتائج نفسها لأنّ الانقسام الحالي ليس فقط، أو أساسًا، بسبب خلافات الأحزاب حول تفاصيل السياسة يمكن حلّه بمغامرات خارجية تستهدف الطرف الأضعف في الصراع أي الشعب الفلسطيني، إنما هو صراع داخلي عميق على أسس الدولة نفسها وانقسام على الجوهر وليس التفاصيل.
هذه النوعية من الخلافات لا تقبل عادةً الحلول الوسط ولا بد أن يتراجع أو ينكسر طرف
أما الأمر الثاني فهو هذا "الانقسام الوجودي" غير المسبوق داخل المجتمع على شكل الدولة، وهذا الانقسام عادةً لا يقبل "القسمة على اثنين"، ولا بدّ أن يتقدّم أو ينتصر طرف أو يتراجع أو يخسر طرف آخر، فهذه الاحتجاجات اعتبرها تيار واسع من الإسرائيليين ردًا على منظومة قانونية متكاملة تهدف إلى تغيير طبيعة الدولة العبرية وتفتح الباب لسيطرة المتشددين الدينيين عليها، وليس فقط سيطرة السلطة التنفيذية على القضاء، ناهيك عن كون هذه السلطة تضمّ عناصر من اليمين المتطرّف الذي يحرّض كل يوم على العنف والإرهاب ويعمل على إدخال عناصر دينية متطرّفة داخل الأجهزة الأمنية تحت مسميات مختلفة.
إنّ هذه النوعية من الخلافات لا تقبل عادةً الحلول الوسط ولا بد أن يتراجع أو ينكسر طرف، ويكفي قراءة خطابات وتصريحات قادة المتظاهرين في الشوارع وكيف أنها تجاوزت رفض المساس بالسلطة القضائية لتصل إلى التمسك بالعلمانية والديمقراطية ورفض الدولة الدينية، ومقارنتها بتصريحات قادة الائتلاف الحكومي من القوى الدينية المتشدّدة وكيف أنهم اعتبروا الموافقة على هذا التعديل سيجعل إسرائيل أكثر يهودية، ووصفوا المعارضين بالخونة، وهو إنقسام على الهوية وجوهر إدارة الدولة العبرية ومفهوم الديمقراطية ودولة القانون، وليس خلافًا حول تفاصيل الإدارة السياسية.
يقينًا، الأزمة التي تواجه إسرائيل غير مسبوقة وربما يدفعها في حال نجحت القوى المدنية في إجهاض قانون استهداف السلطة القضائية إلى مراجعة هذا التناقض بين دفاع يهود الدولة العبرية عن الديمقراطية ودولة القانون كنظام للحكم والإدارة في دولتهم، وتطبيق عكسه على الفلسطينيين، فلا يمكن أن يستمرّ نظام "ديمقراطية للإسرائيليين" و"احتلال للفلسطينيين" ويجب وضع مسطرة عادلة واحدة تنهي الاحتلال والفصل العنصري.
(خاص "عروبة 22")