بصمات

التفكير الحر ومفهوم المقاومة

قد تكون المقاومة ردَّ فعلٍ عفويًا ضد محتلٍّ أو معتدٍ أثيم، وقد تجاوِزُ العفويَّة إلى التخطيط، وبالتالي إلى المشروعية وبناء التوجهات استنادًا إلى حيثيَّتها القائمة، أي إلى رسم استراتيجيات كبرى، لكن ما يجب أن نفكِّر فيه هو هذا التفكير المجاوِز للعفوية تحديدًا. ذلك أنَّه من السَّذاجة أن لا نقرِنَ الفعل المقاوِم بالوجود السياسي للإنسان في مكانٍ وزمانٍ وحدث، فنختَزِلَ فهمَ المشهد بالانصياع الكلِّي لصوت السلاح.

التفكير الحر ومفهوم المقاومة

نتحدَّثُ عن التفكير الحرِّ في عصفٍ لاهب، حربٌ بدأت في غزّة وتمر الآن في بيروت...، نريدها أن تنتهي!

إنّ استدامة الفكر في الرؤية الحاضرة هو الذي يؤدي إلى حياةٍ نشيطة تبني في الزمان والمكانِ وطنًا، أي محلًّا آمنًا للإنسان، وبالأحرى ليوجَد الإنسانُ ويكون حرًّا متكلِّمًا رصينًا مكينًا غيرَ مارِق. البطولة الحقيقية هي في منع الصراع العبثي في الوجود، وفي استدامةِ السِّلم، وفي تفويت فرصِ العدو في تخريب صورة الأمن والسلم الراهنين. ذلك أنَّ وجود طرفين متصارعين، أحدُهما يمتلك القدرة الأداتية والتفوق العلمي والتقني والهيمنة الاقتصادية والتسلط في مواقع القرار الدولي لسيادة العالم، والآخر يمتلك رصيدًا أخلاقيًّا وحضاريًّا وتفوقًا قيميًّا في اعتبارية وجود الإنسان الهنيء على الأرض، لكن دون تفوق في العلم والصناعة والاقتصاد والسياسة، يجب ألا تتيح الظروف لابتداء مواجهات عنيفة قاتلة.

علينا الإقدام بفاعلية بحيث نضمن ألَّا نكَرِّرَ تجاربنا السابقة

التفوق التقني سيقتل التفوُّقَ القيمي، فلا مجال للحديث عن الحق والأخلاق الكريمة والأخوَّة الإنسانية عند احتدام الصراع. لذلك إنّ الانتصار الحقيقي للقيمي على التقني يكون في أن يساوِقَ التفكيرُ سيرورة الابتداء لأي فعل، وذلك ببناء الذكاء السياسي القادر على منع حدوث الصراع أساسًا، وفي الاستفادة من المؤسسات ذات الطابع الدولي الجامع التي تتيح الطرحَ الدائم لمفهوم الحق على مسامع الفاعلين المؤثرين في السياسة الدولية.

لنتذكَّر دائمًا أن الوطن الحقيقي هو الإنسان، ذلك أنّ الجغرافيا ليست أتربة ورمالًا متحركة ومياهًا تجري، بل هي جغرافيةُ الفكر المتين القادر على الولوج إلى كل ذهنٍ ووجدان بشريَّين في أقاصي هذا العالم الفسيح. لا شيء يحقق الوجودَ الهنيء سوى القدرة على نشر الفكر الجامع للبشر في مفهومٍ للزمان والمكان يقبل الوجود بكل ما فيه ومن فيه، فتطمئنُّ له الخواطر والنفوس.

قد يأتيك صوتٌ من قلبِ الحدثِ ليقول بحميَّةٍ وحماسةٍ، وربما بوقاحة صادرةٍ عن الجهل والكينونة المارِقة في الانتماء الحقيقي للإنسان بما هو كائنٌ حي وليس بما هو كائنٌ ميت: الآنَ المعركةُ قائمة، لا وقتَ للتفكير والفذلكة، وأحيانًا يجاوِزُ ذمَّ ما يراهُ فذلكةً، فيقول "بلا فلسفة"! نعم، يقرِّرُ الميْدانُ بلا فلسفةٍ وبلا فكرٍ وبلا رأي، فقط نقاتل، ونسير بانفعال، لأن الحدثَ فرضَ نفسَه علينا.

في هذه الحيثيَّة المستعصية على النفاذ السريع إلى ما بعدها، وذلك لفداحة الإجرام في إحداثها، لا بد من عدم نسيان التفكير في الحدث بما هو ظاهرة حيَّة معيشة لا يمكن اعتبار حصولها قدرًا ولا إمكان تناهيها الحرِّ مصيرًا. إن تقرير سياسة اللعب في الحرب، هذه الفجوة الحضورية الراهنة، التي قطعت سيرورة السلم والأمان، يقتضي تجويدَ الفهْمِ في مجرى الحدث وليس على هامشه. علينا الإقدام بفاعلية، بحيث نضمن ألَّا نكَرِّرَ تجاربنا السابقة. إن ابتكار الحل في الخروج من الأزمة يستدعي التفكير في التحرر من قوَّتِها ومن ضراوةِ استمرارها. لذا يجب ألا يصيبَ الخطابَ الحدَثِيَّ الراهنَ عِنادٌ أو تعنُّتٌ يحجب عنه إمكان التغيُّر والتحوُّل إلى خطابٍ جديد، يمكن أن يكون نفعه الخلاصي أكبر وأنجع وأقدر في تجاوز ما يجري.

السيرُ الهادئ المتأنِّي نحو الحلِّ يسميه الفاعل اللامُفَكِّرُ في ما يجري تنازُلًا، أما الفاعل المفكِّر في حجم الفجوة بين الفكر والواقع، فيرى فيه إمكان استمرارَ الفاعلية في الاشتراك الحر في صناعة مستقبل الحدث. لذا إن الوهم الذي يطغى على الحقيقة هو الذي يؤدي إلى التهوُّر في الواقعية، بمعنى أنه يحجب عن الفاعل المسلَّح التفكيرَ بإمكانِ تعديل الأفكار. وإن تعديل الأفكار بمقتضى الأحداث لا يُعَدُّ إخلالًا بالمبادئ، بل هو وعيٌ بضرورة الفهم والاستيعاب للظاهرة.

الخطوُ إلى الأمام لا يأتي خبطَ عشواء بل يستندُ إلى التخطيط والاستشراف

الحرب ليست قدرة العدوِّ علينا فحسب، بل هي تظهيرٌ لقدرتنا عليه كذلك، بشرط أن نمنع إبقاء فكرة أن الحرب حدثٌ مطلق، مكتملُ الشر. الحربُ اليوم فيها إمكانية كبرى لجعل العدو لا يستفيد من عدائيته وغطرسته، وذلك عبر الالتفات قليلًا إلى مرآة الذات. وما هذه المرآة سوى انعكاس لصوت أقدام الجسد على أرض الواقع، هذا السير الذي يحتِّمُ التعقُّلَ في الدَّوْسِ والخطْوِ المكين الواثق. إن التأنِّي في السَّير هو الذي يؤكِّدُ المفهوم المتفوِّقَ للعيش الكريم، ألا وهو مفهوم الحرية. وإنَّ التأني في الفعل رغم العداء المستشري هو الذكاء الفائق القادر على جعل الفاعل قويًّا كل الوقت، فيعيش بما يمكنه من العناية بالذات، بدل أن يكون مجبرًا على الاستمرار بالعيش ضعفًا ووهنًا أمام هيمنة الآخر غير المبالي بالفهم والتعقُّل.

التفكير الحر يترافق مع السلوك الحر، أي يتمثَّلُ بتنمية القدرات الفردية وببناء الشخصية وبالتعلم والتقدم والتخطيط والتحديث وتمتين مؤسسات المجتمع المدني التي تعزز وجود الدولة وهيبتها. إنَّ كل إنسان قابلٌ لتجديد فاعليته كلما أصابها الوهن وصارت أقرب للانفعال، وهذا مشروط بجرأة اتخاذ قرار الاعتراف بالواقع وما الانتصار الفعلي سوى القدرة على إبداع الفكرة في وقتِها.. عندئذٍ يكون الخطوُ إلى الأمام لا يأتي خبطَ عشواء، بل يستندُ إلى التخطيط والاستشراف والثقة بالنفس. بهذا يكون الإنسانُ قد قاوَم إمكانَ زوالِه وإمكان الاعتداء عليه، بجدارةٍ لا يمكن استثناؤها.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن