تقدير موقف

حروب "التطرّف التكنولوجي"!

يُقال إنّ التحولات التي طالت أشكال الحروب ومدياتها، تأتت من سياقات شتى، ذات طابع تنظيمي وثقافي وقدراتي وما سواها. ويُقال أيضًا إنها تأتت بالعقود الأخيرة تحديدًا، من تطورات العلوم والمعارف والتكنولوجيا.

حروب

لقد جاءت المعلوماتية والشبكات الرقمية، وفي مقدمتها شبكة الإنترنت ووسائل الاتصال النقالة، لتفرز ثورة كبرى في "الشؤون العسكرية" وفي المفاهيم المعبرة عن تجلياتها. فترتب عن أتمة القوى والقدرات وربطها ببعضها البعض، بروز مفاهيم الحرب الشبكية، والحرب الخائلية أو الافتراضية، والنزاعات الافتراضية، وحرب الفضاء الخائلي، وغيرها.

ما من شك أنّ الولايات المتحدة الأميركية كان لها موقع الريادة في ذلك، ليس فقط على المستوى العملياتي الصرف، بل على مستوى التنظير التكتيكي والاستراتيجي أيضًا، وكذا على مستوى إعادة تشكيل عقيدة الجيوش، في البر والبحر وفي الجو.

الذكاء الاصطناعي مَكّن من الحصول على معطيات عن العدو بأحجام ضخمة تـُمكّن من تحديد مصادر قوته ومكامن ضعفه

لم يقتصر الأمر على هذا الجانب، بل تعداه، وقد باتت التكنولوجيا المتطورة في المتناول، إلى بروز ما يُسمّى بـ"البيئة الجديدة للقتال"، التي بات مجال ونطاق فعلها، هو العالم الخائلي. وهو عالمٌ من ثلاثة مستويات مركزية: بنيات تحتية مادية مكونة من الحواسيب والأقمار الصناعية والمحولات والكوابل، ووسائل الإرسال والاستقبال والأشياء المرتبطة، ثم مجموعة التطبيقات الرخوة، المشَكّلة من البرمجيات والخوارزميات والتوجيهات الفيزيو/رياضية، ثم مجموع المضامين والمعطيات والمعلومات التي تنتقل بسرعة الضوء، من بين ظهراني هذه البنيات والتطبيقات المعلوماتية.

إنّها رزنامة مما يتم التقاطه وتجميعه وتخزينه ومعالجته وتحليله لإنتاج ما يسمى بـ"المعرفة" الإدراكية"، أي تلك التي يبنى على أساسها القرار. عندما يتم التفكير في تفعيل هذه المستويات الثلاثة أو بعض منها، فإنّ خبراء الاستراتيجيات الحربية يختارون أيّ الجوانب بالإمكان البدء بضربها وتحييدها. الحرب الخائلية تقوم هنا مقام الحرب التقليدية جزئيًا أو كليًّا، أو حسب تدرج الخطط الحربية وما يوفره الموقع الجغرافي للعدو المستهدف، من خيارات أو خيارات بديلة.

كما أنّ الضربات التي تطال هذه المنشأة أو تلك، فتدمرها أو تحد من مفعولها أو تضعها خارج الخدمة، غالبًا ما يتم اللجوء إليها كوسيلة ضغط لإدراك غايات محدّدة، وإلّا فهو خيار الحرب التقليدية في تعذر تنفيذ الخيار الخائلي.

هي عملياتٌ كانت قائمة من بين ظهراني المؤسّسة العسكرية أو داخل وزارات الدفاع، لكنها تقوت بالسنين الأخيرة بمراكز بحوث وبيوت خبرة، فرصدت لها ميزانيات وموارد بشرية ضخمة، وبات لها خبراؤها ومستشاروها وأصحاب الرأي بخصوصها.

صحيح أنّ الحروب لا تزال تحمل في أحشائها نصيبًا كبيرًا من العنف والقتل والتدمير، لكنها استعاضت في جزء كبير منها بأدوات لامادية باتت تمكن من إدراك الأهداف ذاتها، لكن بسرعة كبيرة، ودون تكاليف مادية مرهقة. إنّها الحامل والمساند والمكمل.

إنّ الذكاء الاصطناعي وتحليل المعطيات الضخمة وتقدم إنترنت الأشياء، ثم تطور التكنولوجيات النقالة، قد مَكّن من الحصول على معطيات عن العدو بأحجام ضخمة، تُـمكّن من تحديد مواصفاته ومصادر قوته ثم مكامن ضعفه.

إنّها حروبٌ خائليةٌ بامتياز، لأنّها ترتكز على التجارب المعلوماتية، والتوهيمات انطلاقًا من بيانات المعطيات الضخمة والمراقبة الشاملة التي توفرها مئات اللاقطات الإلكترونية الموزعة بكل ربوع المعمور. الفعل المادي يتراجع هنا بقوة، إذ يبدو الشكل الجديد للحروب متمحورًا حول قدرة الجيوش على شن حملات تدميرية عن بُعد، يتم بموجبها إعمال ما استجد من تكنولوجيات ووسائل رصد وتتبع وتحديد الأهداف بدقة متناهية.

التطرّف التكنولوجي لا يختلف كثيرًا عن التطرّف الديني

إنّها حروب لا أثر لوجه العدو فيها. لقد تمت الاستعاضة عنه بمسميات هجينة من قبيل "الدولة المارقة" أو "الداعمة للإرهاب" أو "المهدّدة للأمن القومي". من إفرازات هذا الشكل الجديد من الحروب أن يتم استعمال تعابير جديدة من قبيل "العمليات الجراحية"، أي تلك التي يتم بموجبها تحديد الهدف ثم استئصاله بدقة متناهية.

بيد أنّ الأمر لا يخلو من آثار جانبية حتى في ظل تطور تقنيات المعطيات الضخمة وأساليب الذكاء الاصطناعي. إذ استهداف قيادي ما بمواصفات محددة، قد تذهب بجريرته أرواح كثيرة تحمل المواصفات ذاتها. وقد عاينا ذلك في الحرب على غزّة، وعايناه أيضًا في التصفية "الدقيقة" التي طالت الصفوف المتقدمة من قيادة "حزب الله" في لبنان، وكيف أنّ التقنيات المعلوماتية مُطعّمة بتقنيات الذكاء الاصطناعي، أصابت أهدافها عن بُعد ودون تدخل ميداني مباشر للإنسان. بيد أنها أبادت في المقابل، أحياء بكاملها، بشرًا وحجرًا.

إنّه التطرّف التكنولوجي في أقصى صوره، لا يختلف كثيرًا عن التطرّف الديني. الجامع بينهما أنّهما معًا من صنع بني البشر.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن