بصمات

إذا كانت الحرب حتمية.. فما الصورة التي نتخيّلها لها؟

في وقت تتسارع فيه التكنولوجيا لتعيد تشكيل المجال الطبيعي والإنساني معًا، من خلال الإنصات إلى الطبيعة بدل السيادة عليها وتملكها، وفتح الإمكان لولادة مواطن عالمي جديد بتعدد نماذجه وأنماطه، يطل علينا العالم المتحضر راهنًا بأبشع تمظهراته وأعنفها.

إذا كانت الحرب حتمية.. فما الصورة التي نتخيّلها لها؟

الحرب المتوحشة واسعة النطاق، التي رفض الجميع قبول عودتها أو حتى تصديقها، قد تجلت واقعًا قائمًا في أبشع صوره وأكثرها بدائية وهمجية، مؤكدةً صواب الأصوات التي حذرت منذ زمن، أنه نتيجة الإفراط في الاعتداد بالقوة، والإنصات للغريزة بدل العقل، وأشكال التطرف والخلافات المتصاعدة، فإنّ الحرب أصبحت خيارًا في حد ذاتها، لم يعد بالإمكان تلافي وقوعها أو منعها.

ولعله من الوجيه، في ظل هذا الوضع، استدعاء السؤال عينه الذي طرحه "فرويد" في سياق الحرب العالمية الأولى، والتي أظهرت وحشية الحرب وتراجع الحضارة الإنسانية: إذا كانت الحرب حتمية الوقوع حقًا، فما الصورة التي نتخيّلها لها؟

الحرب جلبت معها الكثير من التحرر من وهم الإنسانية والتحضر والعدالة والديمقراطية والقانون الدولي

في معرض إجابته عن السؤال، يعود "فرويد" إلى وضع الحروب في العصور القديمة المتحضرة، حيث اعتُبرت مثلًا في بلاد اليونان القديمة، فرصة لإظهار تقدّم البشرية في الشعور الجماعي، ولذلك تم ربطها بشكل وثيق بالقيم الاجتماعية والثقافية لهذه الأمم، ومع أنها لم تكن كافية لوقف الفظائع والآلام حينها، إلا أنها حرصت في كثير من الأحيان على الانضباط لبعض القواعد والأخلاق التي كانت تُحترم في النزاعات العسكرية، ومنها أن اعتبرت هذه الحروب ضرورة وليست هدفًا.

لقد اعتُبرت الحرب في أغلب الأحيان وسيلة لتحقيق أهداف سياسية، وذلك منذ العصر الذي أعلن فيه نواب المدن اليونانية القديمة أنه لا يجوز إتلاف كَرمات زيتون، ولا قطع مياه، مع إعطاء حصانة كاملة للجرحى الذين ينبغي بالضرورة أن يُسحبوا من القتال، وكذلك للأطباء والممرضين الذين يكرسون أنفسهم لمهمة تضميد وعلاج الجروح، وكذلك أقصى الإجراءات الاحتياطية للفئات غير المقاتلة من السكان (النساء اللاتي يمنعن عن الأعمال الحربية، والأطفال الذين – حالما يشبون عن الطوق - ينبغي ألا يعودوا أعداء بل أصدقاء ومتعاونين)، وكذلك مع الحفاظ على كل التعهدات والمؤسسات الدولية التي تجسدت فيها الحضارة المتبادلة لزمن السلم (سيغموند فرويد).

في وقتنا هذا، الحرب التي رفضنا أن نصدق عودتها بين الشعوب والدول قد اندلعت وجلبت معها، على نحو مفاجئ الكثير من التحرر من الوهم، وهم الإنسانية والتحضر، والعدالة والديمقراطية والقانون الدولي، وهي ليست فقط أكثر هدرًا للدماء وأشد تدميرًا من أية حرب ماضية، بسبب الكمال المتزايد على نحو هائل لأسلحة الهجوم والدمار المعززة بالذكاء الاصطناعي، والقرارات العسكرية الآلية، الخالية من الأخلاق والعاطفة الإنسانية، استجابة للأمر الآلي (مشروع نيمبوس مثلًا): "اضغط الزر ودمر، فالمعلومات تشير إلى أنّ الفرصة مناسبة"، ولكنها أيضًا وعلى نحو متزايد، تتجاوز بكثير القسوة والعناد ونزعة التدمير المترسخة التي ظهرت خلال الحرب العالمية الأولى والثانية، كما أنها تستخف بكل القيود التي تُعرف باسم القانون الدولي، والتي التزمت الدول بأن تراعيها زمن الحرب والسلم. إنها تدوس تحت أقدامها في غضب أعمى كل ما يصادفها في طريقها، كما لو أنه لن يكون هناك مستقبل ولا نوايا طيبة بين البشر بعد انتهائها، إنها تخرق كل روابط الزمالة بين الشعوب، وتهدد بأن تخلّف إرثًا من المرارة والحقد للأجيال القادمة، من شأنه أن يجعل من المستحيل – لزمن طويل آت - أي تجديد لمثل هذه الروابط (س. فرويد).

قدرة المؤسسات الدولية على منع الحروب محدودة مما سمح وسيسمح بحدوث المزيد من الانتهاكات لحقوق الإنسان

وعلى الرغم من إنشاء العديد من الهيئات الدولية مثل هيئة الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية، إلا أنّ قدرة هذه المؤسسات على منع الحروب أو معاقبة مُجرميها في الوقت الراهن تظل محدودة، مما سمح وسيسمح بحدوث المزيد من الانتهاكات لحقوق الإنسان، وما يتبعه من تواتر للنزاعات والحروب في كل مكان، سواء كانت أهلية داخلية، أو خارجية بين الدول والأمم.

إنّ الحروب بالتأكيد يمكن تلافيها، أو منع اتساعها جغرافيًا وزمنيًا، ولكن فقط إذا اتحدت الإنسانية لإقامة سلطة عالمية مركزية، قانونية وعدلية – من العدالة -، وتزويدها بالقوة الضرورية، بعيدًا عن الحسابات الضيقة، تقف فيها جميع الدول القوية والضعيفة على منصة واحدة، ويسلم إليها حق إصدار الحكم على كل الصراعات بين المصالح والجماعات، وأي من هذين الشرطين (السلطة والقوة) دون الآخر يكون عديم القيمة، وسيجعل احتمالات تطور الحروب التكنولوجية والنووية مستقبلًا على نحو عالمي أشد فتكًا ودمارًا، يتجاوز بكثير ما تعرضه أفلام الخيال العلمي.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن