لماذا يشعر المتفرج العربي سنة 2024 بأنه يشاهد مقطعًا عرضيًا لدهاليز الحكم في بلاده، أو سردًا شديد الواقعية يحاكي حقيقة العلاقة بين الأجهزة الأمنية من جهة وبين الجماعات الدينية من جهة أخرى؟ هل كان "طيور الظلام" تنبؤًا أورويليًا بما حدث ويحدث اليوم في المشهد العربي الكبير؟ وهل كانت موجات "الربيع العربي" التي صعدت بالجماعات الدينية إلى سدة الحكم نتيجة طبيعية للعلاقة المضطربة بين الحاكم المستبد والإسلام السياسي؟.
"فرصتك مالهاش مستقبل يا علي.. ماتنساش إنك هاتكون ضد الدولة"، هكذا خاطب "فتحي" صديقه "علي" الذي ترمز شخصيته إلى قادة التيار الديني المتشدّد. جملة لخّصت واقع ومستقبل الجماعات المتطرّفة. لن نستعرض في هذا المقال التاريخ المؤرق لجماعة "الإخوان المسلمين" في مصر، بقدر ما سنناقش أصل الحكاية، ومربط الفرس. حديثنا سيركّز على العلاقة المحرمة بين المال والسلطة، لأنّه كما هو معلوم، كلّما اخترق المال دوائر السلطة، كلّما استشرى الفساد والظلم وفسدت أنظمة الحكم.
كيف حلّقت "طيور الظلام"؟
رَصَد وحيد حامد كيف عزّزت الدولة في عهد مبارك أجهزتها الأمنية، وأنشأت نظامًا قمعيًا للغاية أحكم قبضته على المعارضة السياسية، بما في ذلك الإسلاميين. استخدمت الحكومة قوانين الطوارئ، ممّا أعطى قوات الأمن سلطات واسعة لقمع المعارضة. ومع ذلك، لم يقضِ هذا على التشدّد الإسلامي تمامًا، حيث استمرت الجماعات في الوجود في الظل، وتكيفت مع تكتيكاتها ردًّا على قمع الدولة.
في الوقت نفسه، حافظت جماعة "الإخوان المسلمين" على نهجها اللاعنفي، وسَعت إلى العمل داخل النظام السياسي على الرغم من وضعها غير القانوني. وكمثال على ذلك، ألقى الفيلم الضوء على عمليات التمويل الضخمة لمكاتب المحاماة من طرف التنظيمات المتطرّفة. في التسعينيات، تمكنت الجماعة نفسها من تأمين مقاعد برلمانية من خلال ترشيح أعضائها كمستقلين، واكتسبت نفوذًا من خلال المشاركة السياسية.
على الرغم من حظر جماعة "الإخوان المسلمين" رسميًا، إلّا أنّها عملت بشكل شبه قانوني. ركزت على التنظيم الشعبي، وإنشاء شبكات من الجمعيات الخيرية والمدارس وخدمات الرعاية الصحية. عزّزت هذه الأنشطة شعبية "الإخوان"، وخاصة بين الطبقات الدنيا والمتوسطة في مصر، الذين كانوا غير راضين عن عجز الدولة عن معالجة الفقر والفساد المستشري.
فسر فيلم "طيور الظلام" كيف خلق ضخ الأموال في السياسة أرضًا خصبة للفساد. فعندما اعتمد المرشحون السياسيون، باختلاف انتماءاتهم الفكرية والسياسية (سواء رجال مبارك أو قادة التيارات المتشدّدة) بشكل كبير على التبرعات من الأفراد الأثرياء أو جماعات المصالح، فقد اضطروا لتنفيذ الأجندات الفاسدة لهذه الكيانات بمجرد انتخابهم. وقد أدى هذا، كما هو معلوم، إلى سياسات كارثية أفادت وتفيد قِلة مختارة بدلًا من السكان الأوسع نطاقًا. الذين وضعوا ثقتهم في تجار الدين أو الدنيا على حد سواء.
المال والسلطة..
من الملاحظ أنّ العلاقة بين المال والسلطة السياسية تعزز ثقافة الصفقات خلف الكواليس، وصنع القرار الغامض، والافتقار إلى المساءلة. إنّ الفساد، سواء في التصور أو في الواقع، هو نتيجة رئيسية للفشل في فصل المال عن السياسة. وتُضِر مثل هذه الممارسات بالحكم وتُقلّل من ثقة المواطنين في قادتهم. وفي الحالات القصوى، تكون النتيجة هي الرأسمالية في أشكالها المتعدّدة ومن بينها الحكم الديني المطلق، حيث يتم استخدام الثروة للتأثير على التشريعات والتنظيم لتحقيق مكاسب شخصية أو تنفيذ أجندات أيديولوجية مدمّرة. بدلًا من النمو الاقتصادي أو السلم الاجتماعي.
وختامّا، سيظل هذا الفيلم واحدًا من أساطير الانتاجات المصرية التي أثرت المكتبة السينمائية العربية. لقد تفتقت قريحة وحيد حامد في نسج خيوط الفساد السياسي والأيديولوجي والأخلاقي من خلال شخصيات الثلاثي "فتحي" و"علي" و"سميرة". إذ رمزت هذه الشخوص بقوة إلى خيوط بيت العنكبوت المتشابكة.
لم يكن "طيور الظلام" مساءلة أخلاقية للتديّن العنيف، أو لسياسات مبارك الأمنية، بقدر ما كان رصدًا للعلاقة المحرّمة بين المال والسلطة. لقد كانت رسالة وحيد حامد واضحة؛ كلّما تدفقت أموال اللوبيات في دهاليز الدولة، كلما حلّقت "طيور الظلام" بحرية.
(خاص "عروبة 22")