مع أنّ الرأي العام يبقى في الغالب الأعمّ، انطباعيًا ومضمرًا لأحكام قيمة مسبقة، فإنّ رأيه هنا لا يجانِب كثيرًا عين العقل، ولا سيما عندما يشير جهارة إلى أملاك رأس الدولة، أو غنائم رجال الأعمال الملتفّين حوله، أو امتيازات البيروقراطية العليا المتحلّقة حوله، أو مأذونيات الريع الموزعة من لدن محيطه، أو احتكار المناصب العليا، المدنية والعسكرية، وحصر التعيينات فيها على الموالين والمريدين.
هذا واقعٌ قائمٌ وثابتٌ منذ زمنٍ بعيد وفي معظم الدول العربية، لدرجةٍ تبدو معها مكوّنات "الدولة العميقة" وكأنّها البنية التحتية، المادية والرمزية، التي لا يمكن لبُنيان الدولة بغيابها أن يقوم، فما بالك أن يستمر ويستقيم. ويبدو معها الشعب "متعايشًا تعايشًا قسريًا"، بحُكم امتلاك ذات الدولة كل وسائل العنف الشرعي، الخشن منه والناعم على حد سواء، بل يبدو مُسلّمًا بها، على اعتبار تمكّن الدولة إيّاها من كل مفاصل السياسة والاقتصاد والإعلام والدين.
"الدولة العميقة" هي تركيبة معقّدة ومتداخلة لا تترك مجالًا أو فضاءً إلّا غزته واكتسحته
يُعبّر مصطلح "الدولة العميقة" عن ذلك التحالف الخفي الذي يجمع بين ظهرانيه، بنيات الدولة المختلفة، الإدارية والسياسية والإعلامية والعسكرية والاستخباراتية والقضائية والثقافية والدينية وغيرها. إنّه ذاك المركّب الهجين الذي يجمع في سلة واحدة بنيات الدولة المختلفة، فيصهرها في بوتقة واحدة مؤداها: الإبقاء على مصالحها وامتيازاتها الخاصة، واستثناؤها من أي محاسبة أو مساءلة، ثم الحيلولة دون تعرّضها لأي متابعة قضائية إن اهتز النظام القائم، أو طال المنظومة اهتزاز.
المصطلح هنا إنّما يعبر عن الطبيعة الشبكية لهذه الدولة، إذ تأخذ هذه الأخيرة شكل بناء شبكي متراصٍّ، يتكوّن من العناصر الرفيعة في النظام، تجمعها مصالح اقتصادية ومشاريع تجارية ومالية، وعلاقات اجتماعية وعائلية، وطقوس احتفالية، وانتماءات طائفية وما سواها. إنّها ليست دولة داخل الدولة. إنّها الدولة ذاتها، بتراتُبيّتها المؤسساتية، بتنظيمها العمودي والأفقي، بأجهزتها في القمع والإكراه، بأدواتها في التجسّس والتضليل، وبأطرها الإعلامية والثقافية والدينية، التي تبني لها الشرعية وتزيّن لها السلوك.
هي تركيبة معقّدة ومتداخلة أشدّ ما يكون التداخل، لا تترك مجالًا أو فضاءً (سياسيًا أو اقتصاديًا أو ثقافيًا أو فنيًا أو رياضيًا) إلّا غزته واكتسحته، لا يفلت من عقالها إلّا زاهد في الدنيا، أو شارد غير مبال، أو محاصر لا قدرة لديه على القول أو الفعل.
ولذلك، فإنّ اختراقها أمر متعذر، وتفجيرها من الداخل أمر محفوف بالمخاطر. فلو سلّمنا مثلًا بإمكانية العصف برأس الدولة وحاشيته في انقلاب عسكري ما، فإنّ ذلك لا يؤذي المنظومة كثيرًا، فالمؤسسة العسكرية هي أصلًا إفراز النظام وصنيعة المنظومة. إنها مكوّن من مكوّنات الشبكة، حتى وإن تصدرت بعد انقلابها واجهة النظام ذاته، أو مقدمة منظومته: عملية الانقلاب غالبًا ما تأتي من داخل النسق وليس من خارجه. إنّها إعادة ترتيب إيقاع نسق تآكل وبات بحاجة إلى ترميم.
الانقلاب العسكري هنا ليس انقلابًا على الدولة العميقة، إنّه مجرّد إعادة بناء وترتيب لعناصر المنظومة القائمة، من دون المسّ بطبيعة أركانها، أو بالوضعية المادّية والاعتبارية التي تتمتع بها.
"الربيع العربي" كان انتفاضات جماهيرية نجحت في تغيير ظاهر النظام لكنها لم تُوفّق في تغيير طبيعة المنظومة
قد يختلف أمر الانقلاب في حالتَيْ الانتفاضة أو الثورة من حيث الدرجة، لكنه لا يختلف معهما كثيرًا من حيث الطبيعة، إذ لو تسنّى لمكوّن من مكوّنات الدولة العميقة أن يتوارى مؤقتًا، فإنّه سرعان ما يعدّ العدّة للعودة بقوة، إمّا من خلال تلغيم "المؤسّسات الجديدة" وتشديد الخناق عليها من الباطن، وإمّا عبر القبول بها كأمر واقع، لكن مع رفض الانصياع لقوانينها، والعمل على حصر مفعول هذه الأخيرة في حده الأدنى.
لذلك، فلم يكن ما يسمى بـ"الربيع العربي" انقلابًا عسكريًا أو ثورة دموية. كان انتفاضات جماهيرية، أخذت شكل اعتصامات ضخمة في الميادين والساحات، نجحت في تغيير ظاهر النظام، لكنها لم تُوفّق في تغيير طبيعة المنظومة.
إذ على الرغم من أنّ سياق انفجار هذه الانتفاضات كان واحدًا، والظروف التي أدّت إليها متشابهة، فإنّ ما ترتّب عنها، على مستوى دور وأداء "الدولة العميقة"، لم يختلف كثيرًا بين دولة وأخرى. فذهاب رأس النظام هنا أو هناك، لم يترتّب عنه انفراط عقد المنظومة، كليًّا أو في بعض مكوّناته، إذ هي (أعني المنظومة) ليست ظاهرة عابرة تنتفي بانتفاء مقوّماتها المادية. إنّها حالة سوسيولوجية، ثقافية ونفسية، تخضع في جزء كبير منها لمتلازمة ستوكهولم، حيث يتحول الحقد المطلق على المتسلّط الجلاد، إلى تعاطفٍ قد يبلغ مراتب الإعجاب في أكثر من جانب.
(خاص "عروبة 22")