توزّعت إجابات قرّاء "عروبة 22" بين العوامل الأربعة التي أفضت إلى ما نحن فيه من تردٍّ، بنسبٍ متفاوتةٍ، على الصورة التي ذكرناها في الجزء الأول من هذا المقال.
لفهم هذه الصورة المُرَكّبة، لِمَا وصل إليه الحال العربي كان علينا إعادة تفكيكها لنقترب من كلّ عاملٍ من أسباب تشكّلها على حدة، ليس ككيانٍ مستقل، ولكن كجزءٍ من تلك المنظومة التي صاغت هذا الواقع.
1 - ضعف الحوْكمة: حين تتآكل بنية الدولة من داخلها
ضعف الحوْكمة وغياب الديموقراطية وضعف فعّالية المجتمع المدني احتلت المركز الثاني وحصلت على نسبة (18.3%) وهي نسبة تُنبئ بإدراكٍ عميقٍ لطبيعة الأزمة التي تمرّ بها بلدان العرب التي لا تزال تبحث عن تعريفٍ دقيقٍ لمعنى "الدولة"، حيث لم يُفلح عالمنا العربي بعد في بناء مؤسّساتٍ تمتلك القدرة على اتخاذ القرار بعيدًا عن منطق الولاء، وحرّة من أسْر التوازنات القبلية والطائفية والسياسية التي تتحكّم في مفاصل السلطة.
الحوْكمة ليست أزمةً تقنيةً، كما يتوهّم البعض، بل هي في جوهرها أزمة شرعية ورؤية؛ فحين تغيب الشفافيّة، وتغدو السلطة حكرًا على قلةٍ لا تُحاسَب، تصبح الدولة مجرّد هيكلٍ إداريّ يفتقر إلى الروح، فتنشغل الحكومات بإدارة اللحظة، لا بتخطيط المستقبل، وتُوظَّف الموارد لا لتحقيق التنمية، بل لحماية النفوذ، وتثبيت قواعد اللعبة كما هي، ولو كانت مائلة.
المواطن العربي لا يشعر بأنّه شريك في وطنه لأنّ أحدًا لم يفسح له مقعدًا على طاولة القرار
تفتقد الدولة قدرتها على مواجهة الأزمات، لا لأنّها تفتقر إلى الموارد بالضرورة، بل لأنّها لا تملك آليات المُحاسبة ولا قواعد التوازن التي تسمح لها بالتفاعل العقلاني مع التحدّيات، وتُصبح السلطة، كما وصفها مونتسكيو قديمًا، "قوةً مطلقةً، تميل بطبيعتها إلى الاستبداد إذا لم تُقيَّد".
في هذه التربة الهشّة، ينمو الفساد لا كاستثناء، بل كقاعدة، ويصبح القرار السياسي نتاجًا لشبكة مصالح ضيقةٍ، لا كرؤيةٍ استراتيجية.
2 - غياب الديمقراطية: حين يُقصى الشعب وتُحتكر الدولة
في عمق الأزمة العربية، يبرز سؤالٌ غائبٌ حاضرٌ: أين المواطن من صناعة القرار؟
الإجابة، التي قد تبدو بديهيةً في الكثير من دول العالم، لا تزال في عالمنا العربي مُحاطةً بالتجاهل، أو مُغطّاةً بزينة خطابية لا تغيّر شيئًا في واقع أنّ السلطة غالبًا ما تُمارَس من فوق لا من أسفل، وتُصاغ السياسات في غرفٍ مغلقةٍ، لا في فضاءٍ عامٍّ مفتوحٍ للنقاش.
حين تُغلق أبواب التغيير السلمي تُصبح خيارات الناس محدودة والفوضى احتمالًا قائمًا
اختُزلت التجربة العربية الديمقراطية بطقوسٍ شكلية، فأجهضتها قبل أن تكتمل، تحت ذرائع مثل "الخصوصيّة الثقافية" أو "الظروف الاستثنائيّة" أو "الخوف من الفوضى".
النتيجة أنّ المواطن العربي لا يشعر بأنّه شريك في وطنه، هو مجرّد متلقٍّ للقرارات، مشاهدٌ في مسرح السياسة، لا يرى نفسه جزءًا من الحلّ، لأنّ أحدًا لم يفسح له مقعدًا على طاولة القرار.
غياب الديمقراطية يولّد فراغًا سياسيًا، ويفتح الباب أمام الاحتقان الاجتماعي، وحين تُغلق أبواب التغيير السلمي، تصبح خيارات الناس محدودةً، وتُصبح الفوضى احتمالًا قائمًا، لا لأن الشعوب تميل إليها، بل لأنّ البدائل سُدّت أمامها.
3 - فعّالية المجتمع المدني: الصوت الغائب في لحظة الحقيقة
المجتمع المدني إن وُجد، يخلق التوازن، وإن غاب، تصبح الدولة ساحةً مفتوحةً للسلطة من دون رقيب، وللخطأ من دون تصحيح، فهو حلقة الوصل بين الحاكم والمواطن، وهو الضمير الذي يراقب، ويقترح، ويُصحّح، حين تغيب البوصلة أو تنحرف السلطة.
ليس من قبيل المبالغة القول إنّ المجتمعات لا تُبنى بالدولة وحدها، بل بما يحيط بها من مؤسّساتٍ أهليةٍ، نقابيةٍ، ثقافيةٍ، حقوقيةٍ، تشكّل ما يُعرف بـ"المجتمع المدني".
تغييب المجتمع المدني يؤدّي إلى انفصال الدولة عن واقعها الاجتماعي
في العالم العربي، يبدو هذا المفهوم كما لو أنّه فكرة مستوردة، أو كماليات لا تحتملها "المرحلة"، لا ركنًا أصيلًا من أركان الحكم الرّشيد، ولذلك، فإنّ أغلب أشكال المجتمع المدني تعاني من محاصرةٍ دائمةٍ، تارةً بالقوانين المُقيِّدة، وتارةً بالتهم الجاهزة، وتارةً بالتجفيف المالي والقيود التنظيمية.
الخطر يكمن في حرص الدولة على وضع سدودٍ أمام نشأة حركةٍ اجتماعيةٍ حقيقيةٍ تُعبّر عن الناس وتدافع عنهم، والأدهى أنّ تغييب المجتمع المدني لا يعني فقط فقدان آلية ضغطٍ شعبيّ، بل يؤدّي أيضًا إلى انفصال الدولة عن واقعها الاجتماعي، وينتهي إلى تراكم المشكلات في صمت، حتى تنفجر فجأة، ومن دون سابق إنذار.
الدولة التي تحتكر كلّ شيء، وتقضي على المجتمع المدني تتحوّل مع الوقت إلى كائنٍ مغلقٍ، لا يسمع الحاكم إلّا صدى صوته، ولا يرى إلّا ما يُريه الحرّاس من حوله.
4 - التفكّك السياسي: حين تذوب الدولة في الصراع من الداخل
نأتي إلى قلب الأزمة السياسية، لا يواجه الوطن خطرًا خارجيًا بقدر ما ينهشه الخلاف من داخله، حيث التفكّك السياسي ليس مجرّد اختلاف آراء، بل هو في الحالة العربية أزمة هوية وطنية، وشلل في صناعة القرار، وتمزّق في الولاء للدولة نفسها.
يتحوّل المشهد السياسي إلى ساحة صراعٍ لا إلى ميدان تنافس، وتذوب الدولة شيئًا فشيئًا في تجاذبات النّخب، وفي انقساماتٍ لم تعُد خلافًا على السياسات، بل باتت صراعًا على الهويّة والشرعيّة.
الحكومات مشغولة بإرضاء مراكز النفوذ وتُبنى التحالفات على توازنات هشّة تُدار بالأزمات لا بالبرامج
خطورة هذا التفكّك أكبر في الحالة العربية، لأنّه لا يجري بين أحزابٍ وفاعلياتٍ سياسيةٍ، بل داخل النسيج الوطني ذاته: بين طوائف ومذاهب، بين أقاليم وقبائل، بين ولاءات داخلية وأخرى خارجية.
وفي مثل هذا المُناخ، تفقد الدولة ما يُعرف بـ"الحدّ الأدنى من الإجماع"، ويُصاب القرار السياسي بالعجز المزمن، وتصبح الحكومات مشغولةً بإرضاء مراكز النفوذ لا بخدمة المواطنين، وتُبنى التحالفات لا على قاعدة الرؤية الوطنية، بل على توازناتٍ هشّةٍ تُدار بالأزمات لا بالبرامج.
5 - التفكّك الاقتصادي: عندما يُبنى الاقتصاد على رمالٍ متحرّكة
الاقتصاد هو العصب الذي إن ضَعُف، اختنق الجسد، وإن انهار، سقط السقف على رؤوس الجميع، ما يزيد المأساة أنّ المشكلة في الحالة العربية ليست في قلّة الموارد، بل في كيف نُديرها، ولِمَن نُديرها، وبأي رؤيةٍ نُخطّط لمستقبلها.
حين تقترب من الأرقام، تكتشف فجوةً مُخيفةً بين القدرات الكامنة والواقع الفعلي، فهناك دولٌ تسبح على بحارٍ من الموارد، لكنها تُعاني من بطالةٍ خانقةٍ، وديونٍ متراكمةٍ، واقتصاداتٍ تعتمد على التصدير الخامّ أكثر ممّا تُنتج، وتستهلك أكثر ممّا تُصدّر.
التكامل الاقتصادي بين الدول العربية لا يكاد يُرى إلّا في البيانات الرسمية
الاقتصاد العربي، في معظمه، ريعي في طبيعته: يقوم على موردٍ وحيد (غالبًا النفط أو التحويلات أو المساعدات) ويُدار بعقليةٍ يوميةٍ، لا برؤيةٍ تنمويةٍ استراتيجية.
هذا نموذجٌ لا يُنتج تنميةً حقيقيةً، بل يُبقي الدول رهينةً لتقلّبات الأسواق العالمية، بحيث تُبنى الموازنات لا على الاحتياجات الوطنية، بل على أسعار البرميل أو هوى الأسواق، وما يزيد الطين بلّة، أنّ التكامل الاقتصادي بين الدول العربية لا يكاد يُرى إلّا في البيانات الرسمية.
وفوق هذا، تغيب العدالة في توزيع الموارد داخل الدولة الواحدة؛ تُخصّص الموازنات لأصحاب النفوذ، وتُهمَل الأطراف، ويتكرّس التفاوت الطبقي بين مركزٍ غنيّ وهامشٍ مسحوق، وهكذا لا يعود الاقتصاد أداةً للتحرير، بل يصبح مصدرًا للتبعية للخارج والاحتقان بالداخل.
6 - الأطماع الإقليمية: حين تتحوّل الأمّة إلى ملعبٍ لصراع الآخرين
مشكلة المشاكل والعقدة التي لا تُفكّ إلّا إذا فُهمت بعمق: كيف تحوّلت أرض العرب إلى ساحةٍ لصراع النّفوذ، ومسرحٍ لتجارب القوى الإقليمية؟.
وقعت المنطقة العربية، بِحُكْمِ موقعها وثرواتها، في مرمى الأطماع الإقليمية المتشابكة، ليس هناك قوةٌ إقليميةٌ مؤثّرةٌ، اليوم، إلّا ولها يدٌ في الشأن العربي.
الخلافات العربية أصبحت تُدار من العواصم الإقليمية كلٌّ يحرك بيادقه بما يخدم مشروعه
إيران، تركيا، إسرائيل ـ كلّ منها تسعى، بطريقتها، إلى إعادة رسم الخريطة العربية لمصلحتها، تحت شعاراتٍ دينيةٍ أو أمنيةٍ أو مزاعم تاريخية.
النتيجة واحدة: تمزيق الفضاء العربي إلى مربّعات ولاءات، وتفتيت الدول من الداخل قبل أن تُهاجَم من الخارج.
الخطير في هذه التدخّلات، أنّها لم تعد مجرّد ضغوطٍ سياسية، بل أصبحت أذرعًا داخلية، ميليشيات هنا، أحزاب مموّلة هناك، منصّات إعلامية مشحونة، ومراكز فِكر تُعيد تشكيل الرأي العام، وبدل أن تُدار الخلافات العربية داخل البيت الواحد، أصبحت تُدار من العواصم الإقليمية، كلٌّ يحرك بيادقه بما يخدم مشروعه.
في كلّ مرة تنفجر فيها أزمة داخلية عربية، تجد خلف الستار صوتًا خارجيًا يُغذّيها، أو على الأقل يستثمر فيها. المأساة الكبرى أنّ معظم هذه القوى الإقليمية ليست أقوى من الدول العربية بمفردها، ناهيك عنها مجتمعة.
نسأل: كيف وصلنا إلى هنا؟
لنكتشف أنّ الضعف الداخلي، والانقسام المُستشري، والعجز عن بلورة مشروعٍ جماعيّ، هو ما جعل التدخّلات الأجنبية "ممكنة"، ثم "مطلوبة"، ثم "مُرحّبًا بها" أحيانًا، فتلاشت المسافة بين التعاون والتبعية، وبين الحليف والشريك.
أخيرًا: نحو كسر الحلقة المغلقة
ليس في هذا المقال ما يدّعي امتلاك وصفةٍ جاهزة، وإن بدا الواقع العربي في نظر الكثيرين أشبه بحلقةٍ مغلقةٍ تتكرّر فيها المآسي وتتراكم فيها الخيبات، فإنّ الإقرار بتشابك الأسباب هو أوّل عتبة في سُلّم الفهم السليم، وهو في الآن ذاتهِ، دعوة لاستنهاض مشروع إصلاحي يتجاوز التجميل السياسي نحو إعادة بناء العقد الاجتماعي من جذوره.
هذه الأمّة لا تزال قادرة على أن تُراجع مسارها شرط أن تقرأه بصدق وتُعالجه بشجاعة
لا يكفي أن نُدرك أن الأزمة معقّدة، بل لا بدّ أن نُدرك أنّ الحلّ يتطلّب شجاعةً سياسيةً، واستقلالًا في الرؤية، وتضامنًا بين الدولة والمجتمع، واعترافًا بأنّ الإصلاح الجزئي قد يؤجّل الانهيار، لكنّه لا يمنع حدوثه.
الرّهان ليس فقط على النُّخب ولا فقط على القادة، بل على وعيٍ جمعيّ بدأ يتشكّل ـ كما أظهر "استبيان عروبة 22" ـ ليقول كلمته: إن هذه الأمّة، لا تزال قادرةً على أن تُراجِعَ مسارها، شرط أن تقرأَه أولًا بصدق، وتُعالجَه بشجاعة.
لقراءة الجزء الأول
(خاص "عروبة 22")