تتوزّع الدول العربيّة اليوم بَيْن مرتبتَيْن في مواصفاتها الخاصّة، والتي ترسم واقعها من جهة وطبيعة علاقاتها مع بقيّة البلدان العربيّة من جهة ثانية. تمثّل المرتبة الأولى الحدّ الأعلى في المكانة أو في مواصفات الجودة، وتستقرّ المرتبة الثانية عند الحد الأدنى في المكانة ومواصفات الجودة، وتندرج كل الدول العربيّة في المسافة التي تفصل بين الحدّين.
من حيث الغنى المادّي تحتلّ بلدان النفط العربيّة في الخليج الأماكن الأعلى في المرتبة الأولى، وبين تلك الدول المملكة العربيّة السعوديّة والإمارات العربيّة المتّحدة وقطر والكويت، وتحتل سوريا واليمن والأردن الأماكن الأدنى في المرتبة الثانيّة في قائمة بلدان الفقر العربي.
دول تملك مصادر للغنى تعاني شعوبها من الفقر والحرمان ودول ذات قدراتٍ إنتاجيّة غذائيّة تقع في دائرة الفقر الغذائي
وحسب قاعدة توزُّع الدول العربيّة بَيْن مرتبتَيْن من حيث المساحة الجغرافيّة وحجم السكّان، فإنّ الجزائر والسعوديّة والسّودان تتقدم بقيّة الدول من حيث المساحة، وأصغرها فلسطين وجزر القمر والبحرين. ومن حيث السكّان، تحتل رأس المرتبة الأولى مصر والسّودان والجزائر، وفي المرتبة الأدنى جزر القمر وجيبوتي والبحرين.
غير أنّ التّرتيب أعلاه في المجالات المذكورة، وفي المجالات الأخرى، تعتريه خروقات واختراقات، منها على سبيل المثال أنّ دولًا تملك مصادر كثيرة للغنى مثل السّودان والعراق وليبيا وسوريا، تعاني شعوبها من فقرٍ وحرمان لا يتناسب مع مكانتها على سلّم الثروات. كما أنّ بلدانًا ذات قدراتٍ إنتاجيّة غذائيّة زراعيّة أساسها الأرض الزراعيّة والمياه وقوّة العمل، ولها مكانة في منتجاتٍ حيوانيّة منوّعة بينها السّودان والعراق، تقع في دائرة بلدان الفقر الغذائي، وهي الحالة الأكثر عموميّة في عالمٍ عربي أغلبه مصنّف في عالم العطش المائي.
وحالة الصناعة في البلدان العربيّة مُلتبسة، سواء من حيث إنّ أغلب الصّناعات خفيفة وذات طابع استهلاكي، والثروات الأساسيّة يجري تصدير أكثرها، وتذهب عائداتها للخدمات وشراء السّلع الاستهلاكيّة وتغطية مصروفات التسلّح، وجزء منها يوظّف في استثماراتٍ خارجيّة.
وسط حالة معقّدة، كيف يمكن تحديد ضرورات العرب ومسارات مستقبلهم؟ في هذا، يمكن القول إنّ توفير ضرورات العرب، يمثّل مهمّةً أساسيّة في أي تحرّك عربي سواء في المستوى العام أو في مستوى كلّ بلد، وأساس الضّرورات هو توفير احتياجات العيش الأساسيّة وفيها الماء والغذاء والأمن والسكن والدواء، التي تكفل الحد الأدنى للعيش.
وعلى الرغم من أنّ هذه المتطلبات متوفرة ولو بدرجاتٍ متفاوتة في كل البلدان العربيّة، فإنّ تجربة ربع القرن الأخير، هزّت تلك المتطلّبات بعنف في عددٍ من البلدان ومنها سوريا، التي كانت حتى نهاية العقد الأول توفّر حدًّا مقبولًا للعيش، يضعها على بوابة تقدم ما، لكن سياسات القوّة التي اعتمدها النظام الحاكم في مواجهة مطالب السوريّين بالإصلاح والمشاركة في إدارة الدّولة والمجتمع دمّرت البلاد وقدراتها ودفعت إلى تهجير نحو نصف السكان إلى الخارج، وهي أرقام قاربها النظام الحاكم في السّودان من خلال صراعات وحروب أجنحته.
لا بد من أمنٍ يحمي المجتمعات العربية من التدخّلات والتعدّيات الخارجيّة ومن عسَف سلطات حاكمة مستعدة لتدمير البلاد
لم تكن نتائج تردّي الواقع في البلدان العربيّة فقط نتيجة الصّراعات الداخليّة، إنما حدث التردّي بفعل تدخّلاتٍ خارجيّة وحروب أو بفعل الإثنين معًا، وهي الحالة الأكثر حضورًا في تردّيات واقع أغلب البلدان العربيّة كما في سوريا التي تدخلت فيها إيران وروسيا وغيرهما، وواقع حال لبنان الذي تدخلت فيه خصوصًا إيران وإسرائيل.
أسوق مثال ضرورة الأمن للدّلالة على أنّ توفير الاحتياجات الأساسيّة للعيش شاملة في أقلّ المستويات الماء والغذاء والسكن والدواء، لن يكون كافيًا فلا بد من أمنٍ يحمي تلك الاحتياجات، ويحمي المجتمعات، ليس فقط من التدخّلات والتعدّيات الخارجيّة في منطقة تتغوّل فيها قوى إقليميّة تحيط بالدول العربيّة، أبرزها إسرائيل وإيران، بل أيضًا يحمي الحياة من عسَف السلطات الحاكمة واستعدادها لتدمير البلاد إذا حدثت ثورات وتمرّدات تهدّد بقاء النّظام ورأس النّظام تحت مقولة "نحكمكم أو نقتلكم وندمّر البلد".
(خاص "عروبة 22")