العرب والتحوّلات الاستراتيجية

من لا يقرأ التّاريخ يتوه عن المستقبل!

يبدو لي بشكلٍ عامّ أنّ العرب اليوم سياسيًّا واجتماعيًّا في "مكانَك راوِح" بالنّسبة للتّفاعل مع التّحدّيات الاستراتيجيّة في العالم. عند قراءة ما انشغلت به النُّخبة العربيّة في أوائل القرن العشرين، وما ينشغل به نُخب العرب اليوم (سياسيًّا واجتماعيًّا) نرى العناوين العامّة عينها، علاقة الدّين بالسّياسة، ووضع المرأة، ونوع ومستوى المشاركة في الحُكم، وأي نوع من "الدّول" يريدون أن تكون!

من لا يقرأ التّاريخ يتوه عن المستقبل!

كلّ العناوين بقيت معنا حتى اليوم، الفرق أنّنا أصبحنا نستخدم الطّائرات الحديثة، والأدوية الحديثة، ونبني العمارات الحديثة والشّاهقة، ونركب السيّارات السّريعة ونحتضن الشّبكة السّيبرانيّة العالميّة. أمّا اجتماعيًّا وسياسيًّا فما زلنا تقريبًا في المكان عينِه، إن لم يكن أكثر رداءة.

النُّخب لم تحدّد ما إذا كانت تريد أن تعيش في دولةٍ مدنيّةٍ حديثةٍ وعادلة وما زال العرب لم يمارسوا حدًّا أدنى من الديموقراطية

على الصّعيد المادّي تجاوب العرب، بشكلٍ ما وبنسبٍ مختلفة مع التّحدّيات، أمّا على الصّعيد الاجتماعي والسّياسي، فما زلنا في قفص "التّراث" الضيّق، لا نريد وربّما لا نقدر على الخروج منه.

لا تعرف النُّخب بشكلٍ عام اليوم أيّ وطن تُريد أن تعيش فيه، هل هو الوطن القومي (أمّة عربيّة واحدة)! أم الوطن الإسلامي يضمّ (الأمّة) كلّها من الشرق الأقصى إلى شواطئ الأطلسّي، وهل هذا الوطن عسكري أو ديني أو مدني؟! ما زالت النُّخب لم تحدّد (في الغالب) ما إذا كانت تريد أن تعيش في دولةٍ مدنيّةٍ حديثةٍ وعادلة، أي لا ينتمي أفرادها الى ما قبل الدّولة (القبيلة أو الفئة أو المذهب) ولا ما فوق الدّولة، أي ازدراء الوطن في سبيل الالتحاق بمشروعٍ خارج الدّولة، كما يقول به مثلًا على سبيل المثال لا الحصر، الحوثيون في اليمن، أو "حزب الله" في لبنان أو الإسلاميّون في أكثر من بلد عربيّ.

ما هو الموقف من المرأة ومشاركتها في النّشاط الاقتصادي؟ ما زال الكثيرون يفكّرون أنّ المرأة "عورة" خُلقت للإنجاب ولطاعة الرّجل، وتسمع ذلك في بيئات عربيّة متعدّدة بنسبٍ مختلفة، من المفروض أنّها دخلت دائرة "الحداثة" منذ مئة عام أو أكثر. كما تنتشر في هذا الفضاء العربي الشّعوذة الدّينيّة، فما زال البعض يرى ويصرّ على أنّ الموسيقى حرام والرّقص أكثر حرامًا، وأنّ لبس "الحجاب" من صلب تعاليم الدّين.

سوف يحلّ الانتصار بالكلام بدلًا من العِلم الحديث وسيادة العقل واحترام المواطَنة والتعدّدية والقانون

أمّا في المجال السّياسي، فما زال العرب في شرقهم وغربهم لم يمارسوا أي حدّ أدنى من الديموقراطية، أي أن تحسُم صناديق الانتخاب في أجواء مفتوحة وسلميّة أي صراع في المجتمع.

اليوم اليمن ينزف، وليبيا يتصارع فيها "الأخوة الأعداء"، ويقتل السّوداني جاره السّوداني الآخر ويُشتَّت شعب كامل يجوع ويمرض، ويزحف بعض العراقيّين على بطونِهم في المواسم تقرّبًا من الموتى، بل بعضهم يكلّمون الموتى بـ"التلفون النقّال"!، وتشرذمت سوريا بين إيران والرّوس والأتراك والأميركان، ويسفَح أهل سويسرا الشّرق - لبنان - التّراب بعد انهيار اقتصادهم ودولتهم التي لم تقُم كما أراد بعض نُخبهم، ويُحرم جميع العرب من حرّية التّعبير، غير التّعبير عن "الحديث مع الجنّ"!

أمام هذا الظّلام الدّامس يرزح الفلسطينيّون والقضيّة الأولى تحت قيادة "منجّمين" يدّعون كما قال أحمد ياسين في لقاء مع أحمد منصور عبر "الجزيرة الفضائيّة" (وهو مُتاح على "يوتيوب") إنّ قراءته للتّراث أوصلته إلى أنّ إسرائيل سوف تتلاشى في عام 2026؟! او كما قال أكثر من قيادي في "حماس" وعلى رأسهم حذيفة عزّام إنّ "الملائكة تحارب مع المجاهدين في غزّة"!، إنّه عالم من الشّعوذة لا يُلام قائله لغطسه في الجهل، ولكن هناك جماعات من البشر تكاد تكون أغلبيّةً تؤمن بتلك "الشّعوذة"!! كما يؤمن الجانب الآخر بأنّ رجلًا توفّي منذ مئات السّنين سوف يعود من جديد إلى الحياة (لينشر الخيْر بعد أن تمتلئ الدّنيا بالشّر)! وإنّ العالم الإسلامي ما زال يشهد "معركة يزيد والحسين"!.

لقد اختطفت "حركة الإخوان المسلمين" ببداياتها الغامضة، عالم أهل السنّة العرب، ثم أثّرت في عالم أهل الشّيعة (عربًا وفرسًا وغيرهما) وهذا ما نشاهده اليوم من (الإسلام الأفغاني) لأنه قرأ "الكتب الصفراء" التي صدرت لهم، فأصبح "صوت المرأة" محرّمًّا، وليس وجهها فقط! والتّعليم الحديث حرام، ويجب أن "تُعدم بفخر" كلّ آلة موسيقيّة أو ما يشابهها!.

جزء كبير من الزّمن العربي المعاصر ذهب تحت شعارات غامضة أوّل من ينتهكها رافعوها

أمام هذا المشهد المحزن، ما زال الخوف أو الرّعب متأصّلًا بين النُّخب العربيّة من المطالبة بفكّ الارتباط بين الدّين والدّولة، أو فكّ الارتباط بين القمع والمواطَنة، أو فكّ الارتباط بين الاقتصاد والخُرافة، تلك العناوين محرّمٌ الحديث فيها لأنّها "هرطقة" ومن أفكار الشّيطان!. لذلك، سوف يحلّ الانتصار بالكلام واللّفظ بدلًا من تحقيق الانتصار القائم على العِلم الحديث، وعلى سيادة العقل، وعلى احترام المواطَنة والتعدّدية، وعلى كون الإنسان إنسانًا، ورفع الصّوت بالنّضال تجاه الدّولة المدنيّة الحديثة والعادلة، واحترام القانون الصّادر من النّاس لمصلحة النّاس، ورفع القداسة عن الأشخاص، بخاصّة أهل السّياسة، وأنّ كلّ إنسان وخصوصًا المسؤول في الدّولة معرّض للنّقد، من دون أن يستخدم السّلطة الغاشمة لإسكات معارضيه.

جزء كبير من الزّمن العربي المعاصر ذهب تحت شعارات غامضة، أوّل من ينتهكها رافعوها، فقد قال "البعث" إنّها "أمّة عربيّة واحدة ذات رسالة خالدة"، وأدبيّاته السّاذجة أوردت البلاد التي تحكّم فيها إلى التّهلكة، وأصبح بين "البعث" السّوري والعراقي على سبيل المثال ولعقودٍ انشقاق استهلك الضّرع والزّرع، وقام العسكر بسلسة من الانقلابات في العواصم العربيّة أوصلتهم الى الحكم فصفّى بعضهم بعضًا، وأفلسوا خزائن بلدانهم وتبيّن في النهاية أنّهم أصحاب عقول فارغة من أيّ محتوى، من معمّر القذّافي إلى عمر البشير على سبيل المثال لا الحصر.

مشهد محزن على الشّباب العربي وضعه على مشرحة الدّراسة واستخلاص الدّروس

إنّها عقود سوداء، بل قرن أسود، والإشكال الذي نواجه أنّه ما زال مستمرًّا ومتجدّدًا، بخاصة في الشأنَيْن الاجتماعي والسّياسي، وقد أفرزا غمًّا اقتصاديًّا ترك مئات الآلاف من العرب مشرّدين ومطارَدين ومهاجِرين!.

من يقرأ تطوّر القرن سوف يرى أنّ بلادًا عربيّة كانت مكتفية ذاتيًّا فأصبحت تعتمد على استيراد كلّ شيء تقريبًا، وأخرى كانت تقدّم معونةً ماليّة إلى دول كبيرة تدهور اقتصادها وتعيش على إعانات دوليّة، وتراجع التّعليم بعد أن نهض في عصر التّسامح النّسبي في العقود الأولى من القرن الماضي.

إنّه مشهد محزن، على النُّخب الحاليّة وبخاصّة الشّباب العربي، وضعه على مشرحة الدّراسة واستخلاص الدّروس.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن