يعود تبلوُر فكرة القوميّة العربيّة إلى بداية ثلاثينيّات القرن العشرين وتمثّل المرحلة أو الدور الثّاني من انبثاق الفكرة العروبيّة في أواخر القرن التاسع عشر. فقد برزت الفكرة العربيّة مع إحياء اللّغة والآداب العربيّة في مرحلة نهوض الفكر اللّيبيرالي والإصلاحي في المشرق، وتبلوُر هُويّة عربيّة في مواجهة الهُويّة التّركيّة بعد الانقلاب الدّستوري عام 1908. وسرعان ما ظهرت جمعيّات شبابيّة أبرزها "العربيّة الفتاة" عام 1908، التي شارك أعضاؤها في الثّورة العربيّة التي انطلقت من الحجاز عام 1916، وأقامت الحكومة العربيّة في دمشق ما بين 1918 و1920، التي أطاح بها الاحتلال الفرنسي للبنان وسوريا.
كانت العروبة كما عبّرت عنها الحكومة العربيّة ذات طابع تعدّدي وإصلاحي شارك فيها ليبيراليّون وإصلاحيّون إسلاميّون وناشطون من طوائف دينيّة متعدّدة وقد مثّلها الهاشميّون خصوصًا مع إنشاء المَلَكِيّة في العراق وتنصيب فيصل ابن الحسين ملِكًا.
مع بداية الثّلاثينيّات ظهرت الفكرة القوميّة العربيّة في أعقاب تراجع العروبة الهاشميّة، وذلك بتأثير صعود الأفكار والأنظمة القوميّة في أوروبّا ذات المصادر النّظرية الألمانيّة والتّجارب الحزبيّة في إيطاليا وألمانيا خصوصًا قبيل الحرب العالميّة الثّانية. وقد لعب المتعلّمون الجامعيّون، وخصوصًا خرّيجو الجامعات الأوروبيّة، دورًا أساسيًّا في إطلاق الأفكار القوميّة.
أوّل الهيئات والجمعيّات التي عبّرت عن الفكرة القوميّة، تمثّلت بعصبة العمل القومي التي انبعثت عن مؤتمرٍ ضمّ حوالى خمسين شخصيّة من لبنان والعراق وسوريا وفلسطين والمنعقد في قرنايل (جبل لبنان) عام 1933، وبينهم عبد الرزّاق الدّندشي وصبري العسلي وفهمي المحايري وكاظم الصّلح وثابت العزّاوي وعلي ناصر الدّين. وقد عبّر البيان التّأسيسي عن الدّعوة إلى الوحدة الشّاملة، كما عبّر عن أفكار راديكاليّة لجهة التّشدّد القومي ورفض التعدّديّة ومعاداة ثقافة الغرب. لكن العصبة لم تعمّر طويلًا وخصوصًا إثر المعاهدة السّوريّة - الفرنسيّة وما رافقها من تناقض المواقف إزّاءها.
انتماء طبقي لطلاب فئات اجتماعيّة وسطى ثائرة على الفئات التي كانت تحكم وتمثّل عائلات الإقطاع والبورجوازيّة الكبيرة
وعلى غرار عصبة العمل القومي، عقد الطلّاب العرب في أوروبّا مؤتمرًا في نهاية سنة 1938، ضمّ نُخبةً من الطّلبة الذين سيكون لأغلبهم شأنًا في مجال السياسة أو الفكر، ينتمون إلى سوريا ولبنان وفلسطين والعراق، بينهم بدر الفاهوم وحليم عزّ الدّين وعبد الرحمن البزاز وعبد العزيز الدّوري وموسى الحسيني وغيرهم، إضافة إلى مصر ممثّلةً بوفيق الرّملي. وقد أصدر هؤلاء الطّلاب كتاب المؤتمر تحت عنوان: القوميّة العربيّة حقيقتها - أهدافها - وسائلها (طُبِع في بيروت - دار الأحد).
وينطوي الكتاب على برنامجٍ متكامل يأمل أعضاء المؤتمر أن يكون برنامجًا لحزبٍ قومي عربي. وقد صاغوا ميثاقًا أشبه بالقَسَم: "أنا عربي أؤمِن بأنّ العرب أمّة واحدة حقّها المقدّس أن تكون كاملة السّيادة في تصريف شؤونها، تدفعها قوميّتها المتحفّزة إلى تحرير الوطن العربي واتّحاده بكافّة أجزائه، وإلى تأسيس نُظُم سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة أعدَل وأصلَح من النُّظم الرّاهنة فيه، تستهدف ترقية مستوى المعيشة وزيادة الخير المادّي والمعنوي للشّعب... أعاهد الله على أن أجاهد في هذا السّبيل ما استطعت واضعًا المصلحة القوميّة فوق كل اعتبار".
يعبّر هذا الميثاق عن تأثُّرٍ واضح بالفكر القومي الأوروبّي، كما يعبّر عن رغبة ثوريّة لتغيير الأنظمة القائمة مما يشير إلى الانتماء الطّبقي لهؤلاء الطلّاب الّذين ينتمون إلى الفئات الاجتماعيّة الوسطى الثّائرة على الفئات التي كانت تحكم وتمثّل عائلات الإقطاع والبورجوازيّة الكبيرة.
ومع ذلك فإنّ الّذين صاغوا البيان كانوا غير قادرين على تحديد نوع النّظام المفترض وهُوّيته الإيديولوجية، يقول الكتاب: "إيجاد نُظم سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة أحسن من النُّظم الرّاهنة... مستمدّة من استعداد العرب وظروفهم الخاصّة، ومن تجارب الغرب. من دون التقيّد بمذهبٍ معيّن من المذاهب الأوروبيّة الحديثة، كالفاشيّة والشّيوعيّة والدّيموقراطيّة"، ولعل هذا التردّد قد طبع الحركات والأحزاب القوميّة التي عجزت عن تحديد طبيعة النّظام السّياسي والاقتصادي الذي تريده، على الرّغم من تبنّيها اللّاحق لشعار الاشتراكيّة.
إلّا أنّ ذلك لا يقلّل من شأن البرنامج الذي ينطوي عليه كتاب المؤتمر، أو بمعنى أدّق التّوصيف الذي يقدّمه للواقع العربي. فقد كان هؤلاء الطّلاب مدركين للأوضاع الاجتماعيّة والثّقافيّة المتأخّرة. وعلى الرّغم من تشخيصهم للبلاد العربيّة التي يطغى عليها الإنتاج الزّراعي فإنّهم يأملون ازدهار الصّناعة استنادًا إلى الثّروات الطّبيعيّة والموادّ الخام.
المتعلّمون في جامعات أوروبّا لعبوا دورًا في صياغة القوميّة العربيّة التي تطوّرت خلال الثّلاثينيّات والأربعينيّات
ولكن حين نصل إلى الواقع الاجتماعي يلاحِظ كتاب المؤتمر أنّ السّكان ينقسمون إلى بدو يصعب عليهم إدراك معنى القوميّة، وإلى فلاحين تطغى عليهم الخلافات النّاتجة عن مشاكل الأرض أو العصبيّات وإلى أبناء المدن التي تفتقر إلى التّنظيم والتّخطيط وإلى نقص الخدمات على أنواعها. أما الواقع التّربوي فيُظهر انتشار الأمّيّة الفاحشة وأنّ التّعليم محلّي لا قومي، وتعتريه الفوضى بين المدارس الطّائفيّة والأهليّة والأجنبيّة والحكوميّة.
ولا شكّ انّ تسليط الضوء على هذا الكتاب/الوثيقة يُتيح لنا التعرّف إلى نضج ووعي المتعلّمين في جامعات أوروبّا، وتأثّرهم بالثّقافة والفكر الغربيَيْن، والدّور الذي لعبوه في صياغة القوميّة العربيّة التي تطوّرت خلال عقدَيْ الثّلاثينيّات والأربعينيّات.
(خاص "عروبة 22")