ثقافة

ثقافة "الإلغاء".. ومستقبل المجتمعات!

بفعل تعاظُم دور وسائط التّواصُل الاجتماعي، أصبح اليوم "إلغاء" شخصيّة مّا، أو علامة تجاريّة أو مؤسّسة، بسبب موقفٍ أو رأيٍ صادرٍ عنهم لا يوافق توجّه فئة ما، أمرًا سهلًا. إنّها ثقافة "الإلغاء"، الّتي تعكس ممارسةً جديدة، للاحتجاج والتّنديد بسلوك أو آراء النّاس؛ وهو تنديدٌ لا ينحصِر فقط، في الإدانة اللّفظيّة، وإنّما المطالبة بمعاقبة الآخر والتّشهير به، بشكلٍ مبالغٍ فيه بحسب الخُبراء، إلى درجةٍ أصبح معها روّاد ثقافة الإلغاء، قضاة يمارسون "عدالةً" على حَسَب أهوائِهم.

ثقافة

لا شكّ أنّ المساءَلة أمرٌ مرغوبٌ فيه، لكبْح رعونات الأفراد والكيانات السّياسيّة وكل متسلّط أو متهوّر، لكن ثقافة الإلغاء، ليست مجرد "مُساءَلة"، وإنّما إصدار لأحكام الإدانة من دون الاستناد إلى أدلّة كافية ومن دون تمكين الآخر من حقّه في الدّفاع عن نفسِه ووجهةِ نظره.

إنّ "القصاصَ" الّذي يمارَس عبر ثقافة الإلغاء، لا يستند في الغالب، إلى موقفٍ أخلاقي حقيقي وعمليّة إجماع، بحيث تعرّضت شخصيّات "للإلغاء"، مثل الكاتبة ج.ك. رولينغ، بسبب تعليقات اعتبرت أنّها ضدّ الشّواذ جنسيًّا؛ فأصبحت ثقافة الإلغاء داعمًة للنّسبيّة الأخلاقيّة، أو لنقل رفض الاتّفاق حول مرجعيّة أخلاقيّة؛ وهذه من مفارقات هذه الثّقافة، لأنّها تدافع عن خليط من القضايا المُتضاربة.

نَمَت وتوسّعت ثقافة الإلغاء في أميركا ومجتمع الإنترنت

هناك من يعتبر ثقافة الإلغاء، ثقافة الغوغاء التي مكّنتها تكنولوجيا الإعلام الجديد، من الإفصاح عن جهلِها ومواقفها غير الرّشيدة؛ وبالتّالي بروز أصوات فئة عريضة من جيل "زد" (Z)، سهلة الانقيّاد والتأثّر بالشّائعات والأخبار الكاذبة.

ويتّفق الخبراء على الأصل الأميركي لهذه الثّقافة، فقد نَمَت وتوسّعت ثقافة الإلغاء في أميركا وفي مجتمع الإنترنت، حيث يقول سيرجيو بيلار دنيلي، أستاذ علم الاجتماع الثّقافي في جامعة بولونيا، إنّ هذه الثّقافة "ظهرت في الولايات المتحدة الأميركيّة في أوائل الخمسينيّات من القرن الماضي، عندما توقّف اليسار عن خوض معارك اجتماعيّة كبيرة وبدأ القلق بشأن حماية الشّرائح الأكثر تهميشًا من السكّان" (وكالة "نوفا").

وهناك من يربط ثقافة الإلغاء بحركة "مي تو" (MeToo)، الّتي تُدين الشّخصيّات العامّة بسبب التحرّش بالنّساء، وكذلك حركة "Wokeism" الّتي ناهضت أشكال التّمييز والظّلم والعنصريّة وتحولت فيما بعد إلى حركة معارضة لقِيَم المجتمع المحافِظ واعتبرت أنّها إيديولوجيّة سياسيّة تُشكّل خطرًا على أميركا.

لقد اتّسع نطاق تداعيّات "ثقافة الإلغاء"، إلى درجة اعتماد المُحافظين في ولاية فلوريدا، في مؤتمرهم السّنوي، شعار "أميركا من دون إلغاء"، وفي ذلك إشارة واضحة إلى إدانة ممارسة "الدّيموقراطيّين" و"التّقدميّين"، لسياسة الافشاء السّياسي ومهاجمة رموز اليَمين الأميركي.

وبذلك، أصبحت "ثقافة الإلغاء" لعبة سياسيّة خطِرة، تعكس نوعًا من الاستقطاب السّياسي في المجتمع الأميركي، بل من شأنها توسيع نطاق ومجال الانقسام. وصرّحت زوجة ترامب، ميلانيا بأنّها عانت من "ثقافة الإلغاء"، وبأنّها مُستهدفة هي وابنها، حيث أغلِق حسابها من مصرف كان يتعامل معها لسنوات، فقالت: "من المؤسف أن نرى الخدمات الماليّة تُمنع بناءً على الانتماء السّياسي"، كما جرى مع انسحاب "شركة التّكنولوجيا الرّائدة" من برنامجها "رعاية المستقبل"، مضيفةً أنّ "جماعة الإلغاء الآن، تشمل الشّركات ووسائل الإعلام التّقليديّة، والشّخصيّات المؤثّرة في وسائل التّواصل الاجتماعي، والمؤسّسات الثّقافيّة، الإلغاء لا يزال مستمرًّا، وهي سِمة من سمات الأعمال التّجاريّة الكبيرة والصّغيرة الّتي لا تزال تُدهشني".

لقد تأثّرت حياة عدّة شخصيّات سياسيّة وأدبيّة وفنّيّة بثقافة الإلغاء وبشكل سلبي، إلى درجة انتحار أحد أساتذة الجامعة في أميركا، بسبب نسْف مساره المهني عبر التّشويه والنّقد والاعتراض عليه، من طرف روّاد ثقافة الإلغاء.

"ثقافة الإلغاء" شائعة منذ عقود والأميركيّون العرب وداعمو حقوق الإنسان للفِلسطينيّين هم الضّحايا الأساسيّون

وصرّح الرّئيس فلاديمير بوتين، بأنّ روسيا تتعرّض لثقافة الإلغاء من طرف الغرب، قائلًا: "أتحدّث عن التّمييز التّدريجي ضدّ كلّ شيء له علاقة بروسيا. إنّه توجّه يكشف عن نفسه في عددٍ من الدّول الغربيّة"، وذلك بسبب إلغاء عدّة أنشطة ثقافيّة روسيّة.

ويقول حسن زغبي، مؤسّس "المعهد العربي الأميركي في واشنطن"، لا جديد في "ثقافة الإلغاء" إنّها شائعة منذ عقود، والأميركيّون العرب وداعمو حقوق الإنسان للفِلسطينيّين هم الضّحايا الأساسيّون. خصوصًا الآن مع إقرار أكثر من 30 ولاية، تشريعًا يُجَرّم الدّعم لحركة "مقاطعة ومعاقبة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها". كما تتبنّى وزارة الخارجيّة والتّعليم الخلط بين انتقاد إسرائيل ومعاداة السّاميّة كمسعى لمنع الأصوات الدّاعمة للفلسطينيّين، ويتعيّن على العقلاء المؤيّدين للمنطق السّليم، خصوصًا وسط التّقدميّين من الأميركيّين العرب واليهود، اتّباع مسعى حازم محترم لوقف هذا الانزلاق الخطير باتجاه أي رغبة في التّباين والاختلاف.

هناك ضرورة لتجديد ميثاق أخلاقي يوازِن بين الحقّ والواجب والحرّيّة والمسؤوليّة

هناك حاجة مُلحة لمواجهة ثقافة الإلغاء التي هي آخذة في اكتساح عدّة مجتمعات، ولن تهدّد فقط المجتمع الواحد بالانقسام وتزجّ به في التّطاحُن والتّعصّب والاحتكام الى حكم الغوغاء، وانّما ستزجّ بالعالم في عصرٍ مُظلمٍ من الكراهيّة والتّقاتل. ولقد ظهر تيّار مقاوم لثقافة الإلغاء، ينادي بمكافحة آفات ثقافة الإلغاء، والمطالبة بتوفير منصّة للحوار والتّعبير عن الآراء من دون خوف أو توجّس من الإدانة والعقاب والنّبذ والإلغاء.

بالنّسبة للمجتمعات العربيّة، فإنّها في حاجة بدورها إلى خطّة لمواجهة ثقافة الإلغاء الّتي ستنتشر فيها، وتُشعل فِتنَة التّعصُّب والكراهيّة والطّائفيّة، وبالتّالي هناك ضرورة لتجديد ميثاق أخلاقي، يوازِن بين الحقّ والواجب، والحرّيّة والمسؤوليّة.

وإذا كانت وسائط التّواصل الاجتماعي، قد وفّرت بيئةً مناسبة "للغوْغاء"، للتّهجُّم على المجتمع ومكوّناته، جهلًا وانقيادًا لسياسة ما بعد الحقيقة، فإنّ العقلاء مطالبون بإرشاد الجميع وخصوصًا الجيل الصّاعد، من أجل امتلاك مهارات الفكر النّقدي المسؤول وأخلاق المُناظرة والعفو عن النّاس وستر عيوبهم والتّحلي بأخلاق التّراحم والتّآزر.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن