شَهِدَت العلاقاتُ السّوريّة - اللّبنانيّة العديدَ من المَراحل منذ التّقسيماتِ التي مضى عليْها مئة وستّون سَنة. ففي الحِقباتِ السّابقة كانت ما يُعرفُ باسم بلادِ الشّام تُقَسَّمُ إلى نياباتِ سلطنةٍ في العصْر المَمْلوكِي، وإلى ولاياتٍ في العصْر العُثماني وبيْنها ولاية حلب وولاية دمشق وولاية طرابلس ثم استُحدِثت ولاية صيدا وولاية عكّا التي حلّت محلّها.
ولكنَّ التّطوّرَ الذي حصل بعد الأحداثِ الطّائفيّة في جبل لبنان عام 1860، هو استحداثُ "مُتصرّفيّة جبل لبنان"، بعد توافقٍ عُثماني مع الدّول الأوروبيّة، وبذلك أصبحت المُتصرّفيّة كيانًا إداريًّا مُنفصلًا عن ولاية دمشق وعلى رأسِه مُتصرّف عُثماني مَسيحي. ولم يَطُلْ الوقت ففي عام 1864، قرّرت الإدارة العُثمانية إنشاءَ ولايةِ سوريا (وهي المرّة الأولى التي تُسمّى فيها ولاية باسم بِلاد وليسَ باسم مَدينة) وتمتدُّ حدودُها من ولاية حلب وحتى خليجِ العقبَة، وبذلك ضمّت ما يُعرف بسوريا الحاليّة وبلاد الأردنّ وفلسطين وأجزاء من لبنان الحالي بما في ذلك البِقاع ومدن طرابلس وبيروت وصيدا وصور، وقد شجّعت الإدارة العُثمانيّة الولاءَ لسوريا. وكان بطرس البستاني الذي سبق أن أصدرَ صحيفةَ "نفير سوريا" قد خصَّصَ صحيفة "الجِنان" للدّعوةِ إلى الانتماءِ إلى سوريا.
وسرعان ما أصبحت سوريا كيانًا جغرافيًّا يُكتب تاريخُه المُغرِقُ في القِدم، فقد كتب المتأدّب الياس مطر (من أبناء حاصبيّا) كتاب "العقودُ الدُّرّيّة في تاريخ المملكة السّوريّة" (مطبعة المعارف، بيروت، 1874)، يعود فيه إلى التّاريخ القَديم وخصوصًا الرّوماني. والجزء الأساسي من الكِتاب يتحدّثُ عن المُدن من حلب وقنسرين وأنطاكية وصولًا إلى غزّة مرورًا بطرابلس وصيدا وصور، ويعتبر مَدينتَيْ جبيْل والبترون اللتَيْن هما داخل المُتصرّفيّة مدينتَيْن سوريّتَيْن. ولم يتأخر جرجي ينّي (ابن طرابلس) بتأليفِ كتابِ "تاريخ سوريا" عام 1881، ويُسهب فيه في ذِكر التّاريخ القديمِ اعتمادًا على مصادرَ أجنبيّة. ويُخَصِّصُ جزءًا من كتابِه للحديثِ عن كلّ مدينةٍ من مُدن سوريا.
لكنّ الإدارةَ العثمانيّةَ ارتأَت وبسببِ نموّ بيروت واتّساع دورِها أنْ تُنْشِئ ولايةً باسم ولاية بيروت عام 1888 تضمّ أقضيةَ طرابلس واللّاذقية وبيروت وعكّا ونابلس. وقد استمرَّ هذا التّرتيب الإداري حتّى نهاية الحرب العالميّة الأولى عام 1918، وانسحاب القوَّات العُثمانيّة ودخول الجيشِ العربي بقيادةِ الأمير فيصل بن الحُسين إلى دمشق، بعد أن كان الشّريف حسين قد أعلن الثورةَ العربيّة الكبرى في مكّة عام 1916، بدعمٍ من الحُلفاء وخصوصًا بريطانيا التي وعدت بإقامةِ مملكةٍ عربيّةٍ بعد الانتصار في الحرب. لكنّ الحُلفاءَ (بريطانيا وفرنسا) كانوا يُخَطِّطُون لتقاسُم النّفوذ في بلاد سوريا.
المُطالبة بالوِحدة اسْتقطَبَت جمهورًا من المَسيحيّين اللّبنانيّين بينما رفض تيّارٌ من الموارِنة "دولة لبنان الكبير"
وعلى الرّغم من كشْفِ البَلاشفة عام 1917 عن هذا المُخَطَّط الذي عُرِفَ بخريطة "سايكس – بيكو"، إلّا أنّ الأمير فيصل أنشَأَ حكومةً عربيّةً في دمشق وشكّل مؤتمرًا (برلمان) يمثّل المناطقَ السّوريّة. وفي 8 مارس/آذار 1920، أعلن المؤتمرُ استقلالَ المملكةِ السّوريّة وتَوَّجَ فيصل مَلِكًا. وصاغَت لجنة حقوقيّة دستورًا للمملكة لم يُقرّ بسببِ احتلال سوريا من جانب الفرنسيّين في 24 تموز/يوليو 1920، بعد معركة مَيْسَلُون. ولم تمضِ خمسة أسابيع حتى أعلن الجنرال غورو في 1 سبتمبر/أيلول إقامة "دولة لبنان الكبير"، بضمِّ إلى المُتصرّفيّة الأقضية الأربعة: بعلبك والبقاع وراشيّا وحاصبيّا التي كانت تابعةً لولاية سوريا، وألويَة بيروت وطرابلس وصيدا التي كانت جزءًا من ولاية بيروت. وقُسِّمَت سوريا إلى أربع دويلات هي: دولة حلب، ودولة دمشق، ودولة جبل العَلَوِيِّين، ودولة جبل العَرَب (الدّروز). وفي عام 1924، أقيمت دولة سوريا بضمّ دمشق إلى حلب، مع الإبقاءِ على دولتَيْ الدّروز والعلويّين منفصلتَيْن حتّى عام 1936، حين ضُمَّتا إلى الدّولة السّوريّة بعد الاتفاقيّة السّوريّة - الفرنسيّة التي لم يوقِّع عليها البرلمان الفرنسي.
أدّى إنشاء الحُكومة العَربيّة في دمشق ثمّ إعلان سوريا مملكةً عربيّةً إلى خلق تيّار وَحْدَوِي عُرُوبِي رَفَضَ التّقسيماتِ الانتدابيّة الفَرنسيّة، وبعد إعلان "دولة لبنان الكبير" انحازت غالبيّة المُسلمين إلى رفضِ الإجراء والمُطالبة بالوِحدةِ السّوريّة، كما أنّ المُطالبةَ بالوِحدة السّوريّة قد اسْتقطَبَت جمهورًا من المَسيحيّين اللّبنانيّين، بينما رفض تيّارٌ من الموارِنة "دولة لبنان الكبير" التي تضمُّ نسبةً وازِنةً من المُسلمين. ولكن بعدَ الاتّفاقيّة السّوريّة - الفرنسيّة عام 1936، والتي مثّل فيها سوريا قادة "الحركة الوطنيّة" الذين أقرّوا بالوحدةِ السّوريّةِ متبنّين سياسةً واقعيّةً تُقِرّ بالانفصالِ بيْن الدّولتَيْن.
"العروبيّون اللّبنانيّون" كانوا يعتبرون أنّ الوحدة السوريّة - اللبنانيّة هي أساس الوحدة العربيّة الشّاملة
إلّا أنّ فكرةَ الوحدةِ السّوريّة - اللّبنانيّة لم تَمُتْ، فبالإضافةِ إلى ميْل غالبيّة المُسلمين إلى مبدأ الوِحدة بيْن البَلديْن، فإنّ التّيّارات الإيديولوجيّة التي نَشأَت في العشرينيّات والثلاثينيّات كانت تَعتبرُ الوِحدةَ بيْن البلدَيْن أساسًا في برامجِها، فـ"الحزبُ الشّيوعي اللّبناني" الذي أُسِّسَ عام 1942، احتفظ بقيادةٍ مشتركةٍ تُؤْمِنُ بوحدةِ الطّبقةِ العاملةِ في البَلدَيْن المُتجاورَيْن، واستمرّت قيادةُ الحزبِ الشّيوعي اللّبناني - السّوري موحدةً حتى عام 1966. وكانت الوحدة السّوريّة أساسَ عقيدة "الحزب السوري القوْمي الاجتماعي". وكذلك، فإنّ "العروبيّين اللّبنانيّين" كانوا يعتبرون أنّ الوحدةَ السوريّةَ - اللبنانيّة هي أساس الوحدة العربيّة الشّامِلة.
لكنّ هذه التّيّارات الحزبيّة الإيديولوجيّة لم تكُن على علاقةِ وفاقٍ مع الحُكومات السّوريّة المُتعاقِبَة. فـ"حزب البعث" الذي أُسِّسَ في دمشق كان معارِضًا، الأمر الذي أدّى إلى اعتقال زعيمِه ميشيل عفلق عام 1949، من جانب حكومة أديب الشّيشكلي قبل أن يقدِّمَ رسالةَ اعتذار. وكان حسني الزّعيم أوّل الانقلابيّين السّوريّين قد سلّم زعيم "الحزب السوري القومي" أنطون سعادة إلى السّلطة اللّبنانيّة التي أعدمته في عام 1949. وكان الحزب القوْمي قد اتُّهِم باغتيالِ الضَّابط العُروبي عدنان المالكي عام 1955، فاعتُقِل أعضاؤه وحُلَّ الحزب في سوريا. أما الحزب الشّيوعي فقد اعتُقِل أحد قياديّيه اللّبناني فرج الحلو في دمشق وقُتِلَ عام 1959.
(خاص "عروبة 22")