الحوكمة والديموقراطية

الوطن العربي.. بين مشروعيَّة التّغيير وأزمة الأنظمة!

تُشَيَّدُ دولةُ المؤسَّسات بناءً على استقلالٍ حقيقيٍ يُترجِم الصِّفة القانونيّة والدّستوريّة لمختلفِ المؤسَّسات، هذه الصّفة التي تمنحُه استقلاليّةً، تُكْسِبُهُ أيضًا حصانةً عن تسلّط الأفراد أو الجَماعات، فيصيرُ القانونُ هو المُحَدِّدُ الأساس، إذ ينحصِر دور الأفرادِ مهما كانت مراتِبهُم على تنفيذ الإطارِ العامّ الموجَّه من طرفِ المؤسسات المُمَثِّلَة للشّعب، فنكون أمام قاطرةٍ متّصلة غيْرَ مُنفصلةٍ مستقلّة تسْمح بممارسةِ العَقْلَنَةِ السّياسيّة بشكل مؤسَّساتي ودستوري.

الوطن العربي.. بين مشروعيَّة التّغيير وأزمة الأنظمة!

إنْ أسقطنا هذا التّعريف على الوضعِ العربي سنجد أنّ المفاهيمَ حاضرةٌ والجوهرَ مفقودٌ ــ بشكلٍ جزئي أو كلّي - مما يسمحُ بِتَبَلْوُرِ مختلف أشْكال الاستبداد والفَساد، فكيف يُمكن تفسير ذلك؟.

ما يجري اليومَ في بلادِ الشّام يُذكِّرُنَا، بمَعنى ما، بما أُطلِق عليه "الرّبيع العربي"، الذي لم يحْمل ربيعًا بقدر ما فتح البابَ لإعادةِ هندسةِ الاستبدادِ السّياسي من جديد، فقد رُفِعَت شِعارات التّغيير التي كانت بالمُجملِ تسير وِفق الجانبِ المضادّ لما هو كائنٌ سياسيًّا، مما أفرزَ ثنائيّةً متعارِضة، قطب الشّعب وقطب النّظام وأزلامِه. عمليّة الفَصلِ بين القُطبَيْن ضبابيّة ولا تستقيمُ واقعًا، لكنّ محركَها هو عمليّة النّفي أو سلبُ أحدهِما للآخر، فعلى الرّغم من أنّ قطبَ الشّعب كلمةٌ مضلِّلة وتختزن داخلَها مختلف التّوجّهات، إلّا أنّ مطلبَ الدّيموقراطيّة يسْمح بهذه التّوافقيّة.

التّغييرَ لا يتوقّف على إسقاطِ النّظام والعمل على استبدالِه

يَطْرَحُ مصطلحُ إزالةِ النّظام إشكالًا مَعرِفيًّا ومِعيارِيًّا، لأنّه مطلبٌ يعكُس ضرورة التّغيير بالقوّةِ حتى لو كانت المطالب سِلميّة، ما دام أنّ النّظام السّلطوي لا يعمل وحيدًا، بل يؤسّس لبِنيةٍ عميقةٍ داخلَ الدّولة. وتتطلّب عمليّة الإِزاحةِ انهيار الدّولة ككلّ خصوصًا فيما يخصّ القطاعات الحسّاسة والتي تَمَسُّ السّيادة التّرابيّة والأَمنيّة. والحال أنّ هذا الانهيار يُمثّل فرصةً لصعودِ المَقْصِيّ من طرفِ القطب الأوّل، ليقومَ بتأسيسِ نظامٍ سلطويٍ بديلٍ - حسب ما أفضت إليْه تجارب "الرّبيع العربي" - فنصيرُ أمام المُعادلةِ عينها وإن تمّ عكسُها، فمنْ كان جزءًا من الشّعب أصبح جزءًا جديدًا من النّظام السّلطوي، فالانضواءُ تحت يافطةِ التّغييرِ قد لا يكون سوى تضليلٍ ظاهريٍ يَسْتَبْطِنُ استبدادًا جديدًا. فنصير أمام مطلبٍ يتعدَّى على الدّيموقراطيّة لهدْم الدّيموقراطيّة عينِها؟! هل معنى ذلك أحقيّة بقاء الأنظمة الاستبداديّة ما دام أنّ التّغيير يظلُّ يتأرجحُ بين دفَّتَيْ الاستبداد؟.

إنّ التّغييرَ لا يأتي - كما أكّدت ذلك التّجارب العربيّة - بالتّخلي عن الكلّ لصالح رفْع الجزء، فلا يكفي هذا الجزء لتغطيةِ فراغِ الكلّ، حيث يتمّ تكسير المَسار التّاريخي عبر التّخلّي عن عمليّة التّراكُم التي تؤسِّس للهُويّة الوطنيّة. أمّا العملُ على تكسير عمليّة التّراكم وكذلك إعادة البِناء كل مرّة من جديد، فلا يسْمح قطّ بتأسيسِ دولةٍ وطنيّة خصوصًا في بيئةٍ تنتعشُ بشكلٍ كبيرٍ على فُرص وضع اليدّ على السّلطة لتمريرِ إيديولوجيّة مُعاكِسة، وهذا مُعطى يستفيدُ من تعاظُم الجانبِ المُبْهَمِ والضّبابي لذهنيّة الشّعوب العربيّة، التي تعيش بدورِها على أُفُقٍ شعبويّ يفتقرُ لِلْعَقْلَنَةِ السّياسيّة، وهو الأمر الذي يُدخلُنا في عشوائيّةِ وبعْثرةِ المَسار السّياسي الذي يتحالف على تعميقِ اعوجاجِه كلّ من القِوى الإمبرياليّة والرّأسماليّة والتّوجّهات المُتطرِّفة، كأنّنا أمام تَوَثُّرٍ هدّام ما بيْن الفرد والدّولة.

لسنا هنا بصددِ تَبخيس مطالبِ الشّعوب بالتّغيير والانعتاقِ من براثنِ الاستبدادِ الذي فَرضته الأنظمة العربيّة لعقود، لكنّنا بصددِ تَسليط الضّوء على ضرورةِ الوعيِ بنوعيّة المَطالب الواجب التّأكيد عليها، بدلَ خلقِ دائرةٍ لتكرارِ التّجاربِ السّلطوية وإنْ اختلفَت الأوجُه أو الإيديولوجيّات فجميعها تَعيش على تحالفاتٍ داخليّة وخارجيّة ولا تُعيرُ جوهرَ البِناء الدّيموقراطي أهميّة. لهذا فإنّ التّغييرَ لا يتوقّف على إسقاطِ النّظام والعمل على استبدالِه.

ما يمكن قولُه نوجِزُه في الخُلاصات التّالية:

ــ لا يقوم مفهومُ الدّولة في الوطن العربي على نوعٍ من العَقلنة السّياسيّة وفق دولة المُؤسَّسات، ممّا يجعل التّغيير يميلُ إلى الإطاحةِ الكلّيّة بمحتوى الدّولة، فيتمُ تصوّرها كوعاءٍ قابلٍ للملْء من جديد بما يتوافَق ومطالب الشّعب.

ــ تتّخذ جُلّ التّيارات أو القوى السّياسيّة في الوطن العربي، الدّولة لتمريرِ رؤيتِها الإيديولوجيّة والعمل على تكييفِها أو تَبْيِئَتِهَا ككلٍ لتتوافَق مع هذه الرّؤية، فنصير أمام نظامٍ استبدادي من جديد.

الأنظمة العربيّة تربط التّغيير بمصيرِها فيتحوّل إلى "فوبيا" هدَّامة ومُقلقَة لديها

ــ تقوم الدّولة في الوطن العربي على الرّؤية الفَوْقيّة التي تمارِسُ وصايةً على المواطِنين تحت عدّة ذرائع مِنها الدّينيّة أو السّلطويّة أو التّقدميّة، حيث تَلْبَس جميعها جُبَّةَ مصلحةِ وخيرِ المُواطن، لكنّها مصلحة تُؤطِّرها وتتحكَّم فيها وتمارسُها البِنية الفَوقيّة من دون استشارةِ البِنية التّحتيّة، ولمأسَسَة هذه الوصاية يتمّ تعميقُ القوى الاستبداديّة في مختلف الأبعاد المُجتمعيّة.

ــ يظلّ مطلبُ التّغيير مَشروعًا ومُحرِّكًا للمسارِ السّياسي، لكنّه قد يشكّل أزمةً لدى الأنظمة العربيّة لأنّها ترْبُط التّغيير بمصيرِها، ومن هنا يتحوّل التّغيير إلى "فوبيا" هدَّامة ومُقلقَة لدى الأنظمة، مع أنّ التغييرَ قادمٌ بشكلٍ تَراكُمي صِحِّي أو بشكلٍ مفروضٍ داخليًّا أو خارجيًّا، لهذا على الأنظمةِ أن تُطَبِّعَ مع آليّة التّغيير وتسعى إليها.

ــ إنّنا نستلهمُ مفهومَ الدّولة من السّياق الغربي لِتَبْيِيئِهِ وِفق رؤيةٍ متوتّرة وغير مستقرّة، بيْن قبولِ الإطار والتّأرجُح في تبنّي مكوّناته حسْب طبيعةِ القائِد أو الحاكِم، فيغيب الرّصيد التّاريخي المُعبِّر عن الهُويّة الوطنيّة الحقّة، ويُهَمَّشُ في المقابل الوعي المَعرفيّ بجلِّ المَفاهيم المُؤسِّسة لدولةِ المُؤسَّسَات.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن