بعدَ أنْ كانَ الدِّينُ يمتدُّ إلى كلِّ جوانبِ الوَاقعِ، أخذَت الوظائفُ السّياسيّة والاقتصاديّة والعِلميّة تخرجُ من إطارِه، لتأخذَ طابعًا دُنيويًّا يَترافقُ مع واقعِ التَّخصُّص العِلمي وتقسيمِ العَملِ الإنسانِي، حيث تمايزَت أنماطُ الإنتاجِ وارْتقَت أشكالُ الحياةِ في أربعة أنحاء الأرْض.
وبعد أن كانَ اللهُ موجودًا في الكوْن كلِّه، يملأُ الآفاق المُمتدَّة بلا نهايَة في فضاءِ الصّحاري وعلى قممِ الجبالِ، ويَتغلغَلُ في قلبِ النُّظُمِ الاجتماعيَّة والعلاقاتِ الإنسانيَّة، أخذَ ينسحبُ تدريجيًّا من عوالمِ البَشر المُحدثِين، حتّى لم يَعُدْ مرئِيًّا في عالم الترانزيستور بالغِ الصِّغر وشبكةِ الإنترنت شديدَة التّدفُّق. وعلى هذا، تعمَّقت مسيرةُ العَلمانيَّةِ بفِعلِ قُدرتِها على خلْقِ آفاق واسعة للحياةِ، واقتراح حلولٍ جديدةٍ لمُشكلات النّاس المُستجدَّة، فاندفعت تاريخيًّا مثل قِطارٍ يسير على قُضْبانِ الواقع، وتِلك هي مَسيرة التَّقدُّم الّتي أرهقت رجالَ الدِّين، وأفقدَتْهُم جمهورَهم الذي كانَ يسألُهم في المُشكلاتِ القَديمةِ ويجادِلُهم حول ما جاء في كتبٍ صفراءَ يَحفظونَها، ولذا فقد شَعروا بالمَرارةِ إزاء تِلك العَلمانيَّة "الشّيْطَانِيَّةِ" التي انتزَعت العالمَ من قبضتِهم، وفرضت عليهِم أن يُلاحقوُها وإلّا خرجُوا من التَّاريخ.
مَن يرغب في الارتقاء بعالمِنا فليس أمامه سوى علومِه وفنونِه
نعم تظلُّ العَلمانيّة تجربةَ الثّقافة الأوروبيّة بالأساسِ، مُنجزُها الرّئيس في ضَبْطِ العلاقةِ بيْن المَسيحيَّة والدُّنيا، فهي التي عرَّفت مُصطلحَها، وعيّنت حدودَها، وشهِدت توالي مراحلِها. لكنَّ العَلمانيَّة ليست قضيَّةَ أوروبّا وحدَها، ولا هاجسَ المَسيحيّة بالذّات، بل قضية جميع البَشر منذُ وُجدوا على الأرض. فما إنْ يبدأُ الإنسانُ حركةَ سيْره على طريقِ العُمرانِ حتّى يواجهَ الأسئلةَ العَمليَّة حوْل المَساراتِ والوَسائِل والغاياتِ. وهنا يتصارعُ مصدران على الإجابةِ: الوَحْيُ الإلهيُ والخِبرةُ البَشريَّة. يَصلُح الأوَّلُ لتبريرِ الغاياتِ، والتّعاطي مع القضايَا الكُلِّيَّةِ والأبَدِيَّةِ، أي الوُجوديَّة. أمّا الثّاني فَمُهِمَّتُهُ الكشفَ عن المَساراتِ والوَسائلَ، أيْ التّعاطي مع القضايَا الجُزئيَّة والمناهِج العَمليَّة.
يظلُّ الوحيُ الفائقُ ابنًا للسّماء، وتظلُّ المَعرفةُ بِنتًا للدُّنيَا، فمَن يرغبُ في الارتقاءِ بعالمِنَا فليسَ أمامهُ سوى علومِه وفنونِه، وضمنَها فنّ تَنظيم المُجتمعات وممارسةِ السّلطة، فالعَلمانيَّة إذن، بوضوح، هي الدُّنيَويَّة. ويجبُ أن لا نُصدِّقَ من يدّعي إصلاح الدُّنيا بالدِّينِ، يُنكرُ العَلمانيَّةَ ويَطلبُ الوحيَ بديلًا، فلا وحيَ خارجَ علاقةِ التّعالي الرّأسي التي تربطُ الإنسانَ بالله، تُهَذِّبُ ضميرَه وتُرَسِّخُ فَضائلَه، أمّا العلاقةُ الأفقيَّة التي تربطُ البَشرَ بمجتمعاتِهم ودُولِهم، أو حتّى بالطَّبيعةِ من حولِهم، فعَلمانيَّة بالضّرورة. بل إنّ بناءَ مكانٍ جيِّد للعبادةِ ومُمارسةِ الطُّقوسِ الدّينيّة: مسجدٌ أو كنيسةٌ أو معبدٌ، هو أمرٌ عَلماني بامتياز، يقومُ به مُهندسون وعمالٌ وفنَّانون يُجيدون إقامةَ الأعمدةِ وتَشييدَ الجُدرانِ وزخرفتَها، فيما يعجزُ رجلُ الدّين: الشّيخ والقسّ والحَبْر عن الإسْهامِ في ذلكَ بشيءٍ، اللّهمّ سوى وعدِ البَنَّائِين بِرِضَى الرَّب.
الحضارة الغربيّة نجحت في تنظيم واقعها على هَدي العلمانية أمّا نحن فلا نزال نُنكِرُها على الرّغم من أنّنا نعيشُها
العَلمانيَّة، إذنْ، هي حقيقةٌ تاريخيَّةٌ، وُجِدَتْ قبلَ أنْ تُسمَّى بهذا الاسم، وفَرَضَت نفسَها على جميع الحَضارَات، ومن بينها الحَضارةُ العَربيَّة. الفارقُ الوحيدُ بينَها وبيْن الحَضارةِ الغَربيَّةِ أنَّ الأخيرةَ اعترفَت بهِا، فَنَجَحَت في تنظيمِ واقعِها على هَدْيِها، عندما جعلَت منْها أساسًا فعّالًا للسُّلطة السِّياسيَّة، وجعلَت المُنافسةَ على الخِدْمةِ العامّة هي أساسُ تشكيلِ ومدارُ شرعيَّة تِلك السّلطة، ولذا فهي لديهم بمثابةِ تجربةٍ تاريخيَّةٍ مُنْجَزَة. أمّا نَحنُ فلا نَزالُ نُنْكِرُهَا نَظريًّا على الرَّغم من أنّنا نعيشُها واقعيَّا. أنظرُ إلى كلّ مناحي الحَياة العَمليّة لتكتشفَ مدَى عَلْمَانِيّتِها، وإلى أخلاقِ النّاس لتتأكَّد من عمقِ دُنيويَّتِها، ولكنّ العَلمانيَّة مصطلحٌ يظلُّ غائبًا عن دَساتيرِنا وقَوانيننَا، فلا نستطيعُ أن نكرِّس بِاسْمِهِ قِيَمَ التَّسامح والحرِّية ولا أن نُجَفِّفَ بإلهامِه مستنقعاتِ العُنف.
يُنْكِرُ الأصُولي العَلمانية باسم الله، تأكيدًا لما يراهُ حاكِميَّة الشَّريعَة، لكنّه في سياقِ المُواجهةِ مع العَلمانيَّة، ومحاولةِ تثبيتِ الشّريعَة يقتلُ كلَّ ما يمتُّ بصِلةٍ إلى جوهرِ تِلك الشّريعة من روحانيَّةٍ وصفاءٍ وانسجامٍ نفسِي. والمفارقةُ أنّه في حربِه على العّلمانيَّةِ والحداثَة إنّما يقفُ على أرضيَّتِهِما، فيَستخدمُ وَسائلَهُما التِّقنيَّة في الاتِّصَال والتَّواصُل، ويحاربُ بأسلحتِهما الفتَّاكَة القادِرة على القتلِ والتَّدمير، من دون أن يُدركَ مدى انْتِهَازِيَّتِهِ ومُراوغَتِه، أو لعلَّه يُدركُ ذلكَ ويُنْكِرُهُ تَخَفُّفًا من الشّعور بالذّنب أو هروبًا من الإحساسِ بالنّفاق.
(خاص "عروبة 22")