خاض السودان تجربة انتخابية حرّة ونزيهة في ظلّ النظام التعددي، أدّت وللمرة الأولى والأخيرة لفوز حزب واحد هو الحزب الوطني الاتحادي بأغلبية مريحة في البرلمان أهّلته ليشكّل منفردًا أول حكومة وطنية، مع وجود معتبر لأحزاب أخرى ارتضت موقع المعارضة بقيادة الند التقليدي للاتحاديين وهو حزب الأمة.
ثم سرعان ما دخلت البلاد في نفق الانقلابات العسكرية التي لم تترك للتجارب الديمقراطية الثلاث أن تتنفّس هواء الحرية والديمقراطية. وقعت المحاولة الانقلابية الاول عام 1957، وتمّ كشف المحاولة، وأحيل الضباط المشاركين للاستيداع.
ثم جاء انقلاب قائد الجيش الفريق إبراهيم عبود في 17 نوفمبر 1958، وتُجمع كل كتب التاريخ السياسي السوداني أنها كانت عملية تسليم وتسلّم بين رئيس الوزراء في ذلك الوقت عبد الله خليل وبين قائد الجيش، يعد أن تأكّد لعبد الله خليل قرب الإطاحة بحكومته في البرلمان بعد توحد أجنحة الأحزاب الاتحادية.
3 تجارب ديمقراطية مجهضة، مجموع سنينها لا يتجاوز 12 عامًا، مقابل 52 عامًا تحت حكم عسكري جاء بانقلاب
صبغت هذه السابقة كل الانقلابات التالية بصبغتها، وهي وجود العنصر الحزبي المدني المحرّض أو الشريك في المحاولات الانقلابية المختلفة، الناجحة منها والفاشلة. فجاءت أول محاولة انقلابية على حكم الفريق عبود من مجموعة من الضباط بقيادة علي حامد ويعقوب كبيدة، وللمرة الأولى يتم إصدار وتنفيذ حكم الإعدام بحق ضباط انقلابيين في السودان، ثم صارت هذه سنّة دائمة، وكان معهم في المحاولة الرشيد الطاهر بكر، المراقب العام للأخوان المسلمين في ذلك الوقت.
وبعد ثورة أكتوبر الشعبية عام 1964، دخلت البلاد تجربة ديمقراطية ثانية انتهت بانقلاب عسكري في مايو 1969 قاده جعفر النميري بتنسيق ودعم ومشاركة من اليسار الماركسي والقومي. حكم النميري لمدة 16 عامًا، نجا خلالها من عدد من الانقلابات العسكرية، ثم سقط أيضًا بثورة شعبية مدعومة من الجيش في أبريل 1985. وجاءت التجربة الديمقراطية الثالثة بعد سقوط النميري لمدة أربع سنوات، وانتهت أيضًا بانقلاب الجبهة الإسلامية بقيادة الدكتور حسن الترابي والجنرال عمر البشير في يونيو 1989. هناك طبعًا عشرات المحاولات غير الناجحة لانقلابات عسكرية لم نحصرها في هذا المقال.
ثلاث تجارب ديمقراطية مجهضة، مجموع سنينها لا يتجاوز 12 عامًا، مقابل 52 عامًا تحت حكم عسكري جاء بانقلاب. ثم جاءت التجربة الأخيرة التي بدأت بثورة ديسمبر 2018، والتي وصلت قمّتها بتدخّل القوات المسلّحة وعزل البشير في 11 أبريل 2019، ثم الوصول لاتفاق ووثيقة دستورية تؤسّس لوضع انتقالي، بدأ العسكر في وضع المتاريس أمامه، ثم قاموا بانقلاب عسكري في أكتوبر 2021، وضع البلاد عل حافة الهاوية وقاد للحرب الأهلية الجارية الآن.
هكذا ولغ الجيش السوداني في عالم السياسة لدرجة أنّ إخراجه منها غالبًا ما يتمّ بثمن باهظ، والمشكلة الأكبر أنه ما يكاد يخرج، حتى يبدأ في سكة العودة للدخول مرة أخرى.
كل الانقلابات، الفاشلة والناجحة منها، تمّت بمزاوجة بين شره العسكر للسلطة، وطمع مجموعة سياسية في الاستئثار بالسلطة دون انتخابات ودون شريك. ولهذا الأمر صلة وثيقة بالعقيدة العسكرية الموروثة، وبرامج التربية والتدريب في المعاهد العسكرية التي تقوم على احتقار المدنيين وتسفيه القيم الديمقراطية والتفكير الحر، واحتكار الوطنية وربط قيم الرجولة والبطولة بحمل السلاح والقتال. وينتج عن ذلك طالب حربي يعتقد أنه الوحيد المؤهل لحكم البلاد وإنقاذها، ويصف الخلافات الطبيعية بين القوى السياسية في مجتمع ديمقراطي بأنها عبث وفساد ولعب بمصير البلاد، وتكاد تكون الفقرة السابقة مأخوذة بالنص من بيان أي انقلاب عسكري مرّ في تاريخ السودان.
أسوأ التجارب على الإطلاق هي تجربة حكم الحركة الإسلامية المسماة بالإنقاذ
وبالمقابل يتكامل ذلك مع طموحات قوة سياسية في الوصول للحكم دون المرور بصندوق الانتخابات، وغالبًا ما تحمل القوى السياسية الانقلابية خطابًا تبريريًا عن مؤامرة داخلية أو خارجية تمنعها من الفوز بالانتخابات، لهذا تأتي عبر الانقلاب.
بالتأكيد هناك أيضًا عنصر خارجي مؤثر، في الخمسينات والستينات كانت تجربة مصر عبد الناصر ملهمة لكثير من المحاولات الانقلابية، ثم تعدى الأمر مرحلة الإلهام لتدخلات مباشرة ودعم سياسي ومالي وعسكري لبعض الانقلابات من قوى خارجية، ومحاولة تصدير تجربة دولة هنا أو هناك ليتمّ زرعها في الواقع السوداني.
أسوأ التجارب على الإطلاق هي تجربة حكم الحركة الإسلامية المسماة بالإنقاذ، فقد استهدفت خلال ثلاثين عامًا من الحكم أدلجة كلّ أجهزة الدولة بما فيها القوات النظامية، وهناك دفعات كاملة من ضباط الكلية الحربية وضباط الشرطة تم قبولهم بكشوفات أعدّتها الأذرع الطلابية للحركة الإسلامية، وقد ترقى هؤلاء وصاروا يقودون وحدات وهيئات عسكرية مختلفة.
وهذه واحدة من أهم نقاط الخلاف بين القوى السياسية المدنية وقيادة القوات المسلحة الحالية، إذ تعتقد القوى السياسية بضرورة تصفية القوات المسلحة من جيوب الحركة الإسلامية والنظام السابق عبر عملية تفكيك التمكين، فيما يرفض برهان ومساعدوه هذا الأمر.
محاولات المقاومة لتدخّل الجيش في السياسة لم تتوقف، وبلغت قمّتها في شعارات ثورة ديسمبر التي كانت الجماهير تهتف خلالها بشعار "الجيش للثكنات والجنجويد ينحل". وحملت الوثيقة الدستورية التي تم التوقيع عليها في أغسطس 2019 مشاركة عسكرية يفترض أنها محدودة ولا تمسّ دور الحكومة المدنية، ويتم في منتصف الفترة الانتقالية تسليم رئاسة المجلس السيادي للمدنيين، وينتهي دور العسكر بانتهاء الفترة الانتقالية.
لعملية جراحية في جسد السياسة السودانية يتمّ فيها استئصال رغبة قوى سياسية في الاستعانة بالعسكر
ما حدث أنّ العسكر تجاوزوا الوثيقة الدستورية وتمدّد نفوذهم السياسي والتنفيذي والاقتصادي بمعاونة قوى سياسية مدنية وحركات مسلحة فقاموا بانقلاب 25 أكتوبر 2021 الذي عطّل العملية الانتقالية كلها. بعد فشل العسكر في الاستفادة من الانقلاب، وتراكم علامات الفشل في كل المجالات، قبلوا بالدخول في عملية سياسية جديدة تؤدي لعودتهم إلى الثكنات في ديسمبر 2022، لكنهم استمروا في المماطلة والتسويف حيت دبّ الخلاف بين جناحَي المكوّن العسكري، وتفجّرت الحرب في 15 أبريل الماضي، تغيّرت موازين القوى بين العسكر والقوى المدنية، وبالتالي تغيّرت أولويات الوساطة والتفاوض.
لا يمكن الآن لأيّ منبر تفاوضي يناقش إيقاف الحرب وحل مشكلة السودان المزمنة أن يتجاهل دور العسكر، على الأقل في المرحلة الأولى من التفاوض، لكن تبقى المعضلة هي كيفية فطامهم وإخراجهم بعد ذلك من السلطة عبر عملية سياسية تُجمع عليها معظم القوى السياسية المدنية. ربما يحتاج الأمر لعملية جراحية عميقة في جسد السياسة السودانية يتمّ فيها استئصال رغبة بعض القوى السياسية في الاستعانة بالعسكر، مع عملية إعادة تأهيل كاملة لبرامج تدريس وتدريب الكليات العسكرية لغرس مفاهيم جديدة تحترم الديمقراطبة وتركّز دور المؤسسة العسكرية في حماية الوطن من المخاطر الخارجية. ولكن الأهم من كل ذلك استفادة القوى المدنية السياسية من هذه التجارب وتصميم نظام سياسي قادر على تمثيل كل السودانيين وإرضاء طموحات المجموعات الإثنية والجهوية والثقافية المختلفة عبر حكم لا مركزي يُعطي مساحات واسعة للأقاليم في حكم نفسها وإدارة مواردها.
(خاص "عروبة 22")