هذا هو، باختصار، مضمون وَعد الفاشي المنحرف دونالد ترامب للعنصري المجرم بنيامين نتنياهو أثناء زيارة الأخير إلى واشنطن... هكذا وبكلّ بساطة يرى هذا السمسار الحلّ لمشكلة قطاع غزّة للكِيان الصهيوني الذي اعتبره "صغيرًا جدًّا" عليه، مع أنه تأسّس على أرض فلسطين المسروقة تنفيذًا لوعدٍ مماثلٍ صدر في الرّبع الأول من القرن الماضي (نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1917) من وزير الدولة البريطاني للشؤون الخارجيّة والكومنولث، آرثر جيمس بلفور، وقضى وعدُه أيّامها بمنح أرض فلسطين للصهاينة لكي يقيموا دولةً عليها، وعلى الرّغم من أنّ صاحب الوعد الأول كان استعماريًّا قحًّا وعنصريًّا فجًّا، لكن الأمانة تقتضي الاعتراف بأنّه كان أكثر تعليمًا وثقافةً بما لا يُقارَن بصاحب الوَعد الثّاني.
دونالد ترامب مجرّد سمسار آفاق وجاهِل بعمق يعتمد البلْطجَة سبيلًا لسيلٍ من السياسات والقرارات الخرْقاء المجنونة في داخل بلاده وخارجها، ووعدُه الذي أطلقَه لزميله الصّهيوني المجرم نتنياهو لم يكن استثناءً من هذا الشّذوذ المتفوّق في الخِفّة والجهالة، لكنَّ الصّهاينة المتطرّفين تلقوه بفرح غامر خصوصًا جانبه المتعلق بالتهجير والتطهير العِرقي للسكّان الفلسطينيّين في غزّة، والذين اعتبروا أنّه يفتح لهم الباب واسعًا أمام تنفيذ مخطّطاتهم السابحة في بحور الأوهام بالخلاص من الشعب الفلسطيني البطل كلّه وتكرار مشهد نكبة العام 1948، بعدما مال فعلًا الميزان الديموغرافي في فلسطين لصالحهم تمامًا بعد عقود طويلة من القمع والقتل والتشريد.
السؤال الآن، هل سينجح الوعد الترامبي وسينفذ ويصبح حقيقة إجراميّة قائمة؟
الإجابة واضحة وكامنة في طيّات هذا الوعد الذي لا يفوق طابعه الإجرامي إلّا خرافيّته التي تلامس حدود الجنون، وعليه فإنّ الاجابة هي "لا"... لا يمكن لاقتراح مخبول ونازي على هذا النّحو أن يمرّ، لأسبابٍ عديدة؛ أوّلها أنّ وعي الشعب الفلسطيني بقضيّته بات عميقًا جدًّا، يشير لذلك ببلاغة هذا الصّمود الأسطوري في وجه آلة القمع والقتل والتخريب الصهيونيّة من دون أن يتزَحزَح هذا الشعب العظيم قيد أنملة عن أرضه وبيته سواء كان هذا في مدينة أو قرية أو مخيّم، حتّى رسم لوحة رائعة ونادرة، يرسم معالمها صمودٌ لا محدود وإعجازي بينما هو يواجه في غزّة حرب إبادةٍ لا مثيل لها في كلّ حروب البشر الحديثة.
المطلوب تحويل عملية إسقاط هذا الوعد إلى مكسب لفلسطين وخسارة لترامب وعصابات الجريمة الصّهاينة
هذا فضلًا عن أنّ الأغلبية السّاحقة من النُظُم والحكومات العربية، لا سيما القُطرَيْن الذي عيّنهما السّمسار صاحب الوعد، أي مِصر والأردن، لاستقبال الشعب الفلسطيني الغزّاوي، رفضوا بشكل قاطع وحازم قبول الفكرة من أساسِها ولم يسمح أيّ منهم بمجرد مناقشة طلب منح أراضٍ من أوطانهم لاستقبال المهجَّرين عنوةً من فلسطين.
كما أنّ حكومات العالم كلّه وكافّة منظماته الانسانية والحقوقية، حكومية كانت او شعبية، جميعها، بما فيها حكومات الدول الغربية الحليفة أو التابعة لواشنطن، جميعها أعربت عن مشاعر هي خليط من الصّدمة والاستنكار الشديدين لهذه الشطحة الترامبية التي فاقت كلّ خيال مهما كان سوء واعتلال عقل ووجدان مقترفها وانعدام ضميره.
مع ذلك لا يبدو أن كلّ هذا كافيًا لمنع الجريمة تمامًا وإفساد خطّة تنفيذها المجنونة من دون دفع أثمان باهظة، بالنّظر إلى أن هذا التّرامب يتربّع حاليًّا على عرش أقوى امبراطورية استعمارية في الكوكب، وقد تبوّأ موقعه الثّمين بقوة جحافل وقطعان من الجمهور الأميركي الذي لا يقلّ عنه تهوّرًا وجهلًا، لكن الصّحيح أيضًا أن هذه الجحافل بدأت بالفعل بوادر تَشي بأنّ تمرّدها على بقرتِها المقدّسة الرّعناء، لن يتأخر كثيرًا.
إذن المطلوب ليس فقط إسقاط هذا الوعد المستحيل، وإنّما تحويل عملية إسقاطه الحتمي إلى مكسب مُهمّ لفلسطين وشعبها، وخسارة فادحة ليس لترامب وحده وإنّما معه كل عصابات الجريمة الصّهاينة، وتحويل خطّة تطهير قطاع غزّة من شعبه إلى "نموذج" بليغ في الفشل، فيبدّد أحلام قدرتهم على تهجير الفلسطينيّين، هذا الحلم الذي يداعب خيال العنصريّين الصّهاينة، ويردم رؤوسهم المحشوّة بالخرافات، بالحقيقة.
إجراء حيويّ شديد الأهمية خلاصتُه أن يجتمع فريقا المقاومة والسُّلطة الفلسطينية على موقف موحّد ضدّ مؤامرة التّهجير
وفي هذا السّياق، فقد كان كاتب هذه السطور وهو يحتشد لكتابتها يضع على رأس الإجراءات المطلوبة لاستكمال إفساد وَعد ترامب، فكرة الدعوة لقمّة عربية طارئة في القاهرة (أساسًا) أو في الرياض، غير أنّني على الرَّغم من ثقتي المنخفضة جدًّا في النظام العربي الرسمي الحالي، فوجئت بأنّ القاهرة دعت فعلًا لهذه القمّة، التي لستُ أطلب منها سوى أن تعلن بكلمات واضحة وصريحة عن موقف عربي يرفض بحزم كل ما جاء في هذا الوعد الأرْعن... ذلك الكلام يكفي جدًّا، وغير مكلِف أيضًا.
يبقى إجراء أخير، لكنه حيويّ وشديد الأهمية، خلاصته أن يجتمع فريقا السياسة الفلسطينية، أيّ المقاومة والسُّلطة على إعلان موقف موحّد ضدّ مؤامرة التّهجير فحسب، وأن يختلفا في كلّ قضية أخرى... على أن يكون هذا الموقف الواحد مشفوعًا بصورة تجمع رموزَهم لأنها ستبثّ الأمل في نفوسٍ أنهكتْها الخلافات قبل إجرام العدو.
(خاص "عروبة 22")