إذ لم يتصوّر مفكّرو النهضة الأوائل لأنفسهم مرجعية بديلة عن الإسلام، وإن تمايزوا فيما بينهم حول الفضاء الذي ينطلقون منه: عالم الإسلام الواسع كاتجاه الجامعة الإسلامية، القائل بتجديد الخلافة وعلى رأسه جمال الدين الأفغاني، أو الوطني المحدود لدى رفاعة الطهطاوي بدعوته إلى تحقيق النهضة من خلال نقل الأعمال الكبرى في الثقافة الغربية إلى العربية، وخير الدين التونسي ودعوته إلى منهجية عقلية مغروسة في التربة الإسلامية، تنتج رجال دين يعرفون الدنيا كما يعرفون الشريعة، أو الفضاء العربي كحلقة وسطى بينهما، كعبد الرحمن الكواكبي، داعية اليقظة العربية. هذا الخطاب الإصلاحي هو الذي قام الإمام محمد عبده بصياغته منهجيًا في دعوته للإصلاح الديني عبر التربية، تجديدًا لرسالة التوحيد، والجمع بين الإسلام والمدنية.
غير أنّ بدايات القرن العشرين شهدت انشطار الفكر النهضوي إلى تيارين متناقضين: أولهما؛ سلفي انحاز إلى الأصالة الإسلامية، مؤكدًا على المكوّن الأكثر تقليدية فيها، جسّده رجال كرشيد رضا الذي اعتبر الخلافة الإسلامية هدفًا وغاية. ومحمد فريد وجدي الذي رأى في الإسلام أصل المدنية الحديثة. وشكيب أرسلان الذي ربط التخلّف العربي بالضعف الأخلاقي، وفقدان الهمّة، ودعا إلى البحث عنهما في النص القرآني، المنبع الذي نهل منه أسلافنا الأوائل. وثانيهما؛ علموي جسّده فرح أنطون وشبلي شميل وغيرهما، وأشاعه في الفضاء العام سلامة موسى. تبنّى هذا التيار، متأثرًا بالسطوة التاريخية للحداثة الغربية، مرجعيتها الثقافية كاملة.
تخلى بعض رموز التيار العلموي عن مواقفهم التغريبية بفعل تراجع المركزية الأوروبية أمام تصاعد حركات التحرّر القومي
أفضى الجدل بين التيارين إلى انبلاج تيار ثالث توفيقي، نمت بذرته بين عشرينيات وأربعينيات القرن العشرين، وبلغ نقطة ذروته في الستينيات، كاستجابة لتطورين: الأول هو بروز أصوات فكرية لا يمكن إدراجها في التيار السلفي، ولا في التيار العلموي، على منوال أحمد لطفي السيّد برفضه لفكرة الجامعة الإسلامية، ودعوته إلى الحرية السياسية والدولة الوطنية. وعباس العقاد بنزوعه إلى استلهام نماذج العبقرية الإسلامية والبطولة الفردية لإحياء الشخصية العربية. ومصطفى عبد الرازق بدعوته إلى تجديد الفلسفة الإسلامية. وتوفيق الحكيم في مذهبه التعادلي/ التوفيقي بين ثنائيات شتى أهمّها العقل والوجدان. وعلي عبد الرازق بمنهجه التاريخي الذي ضمّنه كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، نافيًا عن الخلافة مشروعيتها الدينية، مؤكدًا على أنها ليست إلا أحد أشكال الحكم المتعاقبة في تاريخ الإسلام.
أما التطور الثاني فتمثّل في تخلي بعض رموز التيار العلموي عن مواقفهم التغريبية، بفعل تراجع المركزية الأوروبية منتصف الأربعينيات أمام تصاعد حركات التحرّر القومي في الخمسينيات، ما أثمر رؤية عربية نقدية للغرب، اكتسبت الثقة في مواجهته من دون إهمال لحقيقة تفوّقه العلمي والتكنولوجي، اعتبرته نموذجًا للحداثة ولكن من دون ذوبان فيه، الأمر الذي حفّز ظاهرة المراجعات الثقافية لدى العديد من رموز هذا التيار، مثل طه حسين الذي عبّر في "المرحلة التغريبية الخالصة" عن آراء قريبة من آراء سلامة موسى، عندما طبّق منهج الشك الديكارتي على الدراسات الأدبية (في الشعر الجاهلي) 1926، ما أثار الشكوك في علاقة لغته بلغة القرآن، ثم أفاض في الدعوة إلى الجذور الأوروبية/المتوسطية للعقل المصري "مستقبل الثقافة في مصر" 1938.
بناء إنسان عربي يجمع بين "الأصالة والمعاصرة" هو الحلم الذي لا يزال يراود الثقافة العربية
لكنه عاد بعد سنوات قلائل ليكتب "في مرآة الإسلام" مفتتحًا سلسلة كتابات تتجذّر عميقًا في التراث الإسلامي. وأيضًا محمد حسين هيكل الذي بدأ حياته داعيةً للعقلانية الغربية، مطالبًا بتمثّل شتى جوانب الحياة والثقافة الأوروبيتين، قبل أن يكتب "الشرق الجديد" و"حياة محمد"، منتهيًا إلى اعتقاد يشبه الاعتراف بأنّ نقل حياة الغرب الروحية ليس سبيلًا للنهوض، وأنّ الكثير مما في الغرب غير صالح للنقل لأنّ تاريخنا وثقافتنا الروحية غير تاريخه وثقافته.
إنه التطور نفسه الذي نقل الفيلسوف زكى نجيب محمود من تبنّي فلسفة الوضعية المنطقية إلى البلورة المنهجية للنزعة التوفيقية، بدأب وحذق في مشروع فكري كبير بدأ بـ"تجديد الفكر العربي" عام 1970م، وانتهى موضوعيًا بـ"عربي بين ثقافتين" 1992م، وهو الكتاب الذي ضمّن فيه وصيته الفكرية، محددًا شروط بناء إنسان عربي يجمع بين "الأصالة والمعاصرة"، يتجاوز النزعة العلموية المتطرفة، والردة السلفية العنيفة، وهو الحلم الذي لا يزال يراود الثقافة العربية حتى الآن.
(خاص "عروبة 22")